نورهان البطريق تكتب: اللقاء الفراق‎

  • 1/15/2018
  • 00:00
  • 12
  • 0
  • 0
news-picture

منذ أسابيع قليلة ماضية ،سافرت إلي السعودية لإنهاء بعض مهام عملي هناك. وأثناء الرحلة، قابلت سيدة عجوزا بلغ منها الشيب مبلغه،وقد تركت السنين التى عاشتها طيلة حياتها علامات وتقسيمات توحي بمدي قسوتها عليها،فقد نال الوهن والضعف قسطا كبيرا من جسدها النحيل.قالت : ما اسمك؟اجابتها :سارةأشارت بإصبعها إلي الصغير الذي كان يجلس علي فخذي.اردفت لها: هذا "عمر" ابني ، بالكاد قد أتم عامه الثاني.فتحت له ذراعيها لتستقبله في محاولة منها لاستقطابه من خلال مداعبتها له وحركاتها التى أثارت إنتباهه. مما جعله يقفز إليها في انسيابية وسلاسة غير مسبوقة منه.قلت لها وأنا أراقب تعابير وجهها التى تنظر إلى الصغير بلهفة : محظوظون أحفادك بك.ردت بدورها دون أن تلتفت إلي : سألتقي بهم بعد قليل، فقد أرسلت لي ابنتي دعوة لأداء العمرة وسأقضي معهم بضعة أيام ثم سأعود مجددًا إلي مصر.قلت لها في فرحة عارمة : مبارك.......ولا تنسينا بالدعوات.التفتت لي هذه المرة في اهتمام :عقبالك يا بنتى ......هذا هو السبب الوحيد الذي يجعلنى أتحمل عبء السفر فقط لا غير.قاطعتها قائلة : وكذلك رؤية ابنتك واحفادك، يبدو أنك تشتاقين إليهم أكثر من الكل ،فقد طار عقلك بالصغير ولم تتركيه منذ بداية الرحلة، ما بالك بما هم من لحمك ودمك.توقفت عن اللعب مع الطفل وأشاحت بوجهها عبر النافذة وقد تغير مزاجها رأسا على عقب ، وقد تمكن الضيق والحزن من ملامحها.شعرت بالحرج بسبب ما ألحقت بها من ألم، فقلت لها معتذرة. ......آسفة ،يبدو أنني قد تدخلت في شؤونك أكثر من اللازم ،فقد اقترفت خطأ غير مقصود تسبب لك في تعكير صفوك.ربتت علي كتفي في حنو : لا تعتذري فأنت ليس لك شأن في هذه الحالة، أنا علي هذه الوضعية منذ أن تركوني جميعهم وذهب كل منهم ليشق طريقه ، كلهم دون استثناء وضعوا مستقبلهم أمامهم ،أما أنا فكنت دومًا في الخلف.اتسعت عيناي في دهشة وعدم تصديق : من هم؟!اغرورقت عيناها بالدموع وكانت تنذر بنوبة بكاء شديدة: أولاديساد الصمت لفترة ليست بقصيرة ،كنت في هذه الأثناء أحاول أن استوعب ما تقوله ،ثم سرعان ما تملكت نفسي واستجمعت شجاعتى ،وقمت باحتضانها بقوة وأنهالت دموعي قبل دموعها.همست في أذني : لا تبكي ياعزيزيتى،ستزعجين الصغير الذي أتعبنا كثيرا حتى خلد إلي نومه.رفعت رأسي من علي كتفها وقمت بطبع قبلة علي جبهتها :حاضر يا أمي.رسمت على شفتيها ابتسامة مفتعلة : شطورة يا حلويتى.قاطعت المضيفة حديثنا تقدمت نحونا وقد قدمت لنا الطعام، نظرت إليها نظرة امتنان ،وقد بادلتني بدورها نظرات التحية حتى همت بالانصراف.أمسكت بالوجبة لكي أعرضها علي "الحاجة سعاد" ولكنها أبعدتها بيدها والقتها جانبًا، هزت رأسها نافية قائلة : ليس لدي رغبة لتناول شىء الآن.طلبت منى أن أناولها حقيبة يدها،ودست أناملها بداخلها ،ثم أخرجت مصحف القرآن الكريم ،شرعت في تلاوة بعض آياته ،ومع مرور بعض الوقت انزلقت من كرسي الطائرة دون إرادة منها، فقد غفوت هاربة من واقعها المرير وكأنها كانت تبحث عن الدواء الذي يجعلها تخلد إلي النوم حتى استنجدت بحقيبتها حتى تلوذ بكتاب الله.باتت نظراتى تسرح بين العجوز تارة وبين الصغير تارة أخري، و أتساءل هل عندما أصبح في عمر هذه السيدة سيكون مصيري يشبه مصيرها؟! .. أم سأكون أفضل حالا منها، ومن أين أتيت بكل هذه الثقة؟!،فقد تبين لي أنها لم تدخر جهدا في تربية أبنائها ومع ذلك أصبحت وحيدة، فأنا ليست أفضل منها في شىء . فلماذا أظن أن وضعي سيختلف عنها كثيرا.حدقت في ابنى بنظرات رجاء وعطف ،وحدثته في توسل، ألا يفعل بي هذا عندما يكبر. ولبثت أدعو الله أن يكون أكثر برا ورفقا بي في شيخوختى.انتبهت من هذه الأفكار عندما تناهي إلي صوت المضيفة وهي تقول "حمدا لله علي سلامتك، لقد وصلنا"أيقظت "الحاجة سعاد" من نومها ، وضممت قبضتها حول ذراعي لكى تهم بالوقوف. ظلت تسير بخطي بطيئة مراعاة لسنها حتى تراءت لها سحنة ابنتها، فهرولت من خطواتها ولكن دقات قلبها كانت أسرع يكاد يسمعها كل من يتواجد بصالة الوصول.عانقت ابنتها بحرارة ممزوجة بغزارة العبرات التى كانت تسيل علي وجنتيها والتى تشي بطول مدة الغياب بينهما.وبعد مرور عدة دقائق ،انتبهت العجوز لوجودي، وقد عرفتني بابنتها، وتبادلنا التحية.وبعد تردد طويل ،قررت أن أحسم الموضوع وطلبت من السيدة العجوز عنوان بيتها فى القاهرة. وكأنها أدركت من طلبي ما أنوي القيام به عندما أعود إلي القاهرة.سارعت قائلة : ولم العنوان؟!صمت لفترة وكأنها ساعات طويلة تمر.قاطعت صمتى بحكمتها قائلة :الذي جمعنى بك اليوم قادر علي أن يجمعنا ثانية دون سابق ترتيب. فقد جمعنا مطار القاهرة صدفة ،وسنفترق هنا دون اختيار منا.فالقدر كتب لنا اللقاء، وها هو يحتم علينا بالفراق. .......فلا تعارضيه واتركيه يسير كما يحلو له.انحنت لتقبل الصغير وأخذت خطواتها تبتعد أكثر فأكثر ملوحة لي بالوداع ،وقد بادرتها بدوري أيضا.راقبتها في صمت وهي تختفي رويدا رويدا حتى توارت تمامًا ثم وليتها ظهري وأنا اتمتم في قرارة نفسي. ....حقًا كان هذا أجمل لقاء و أمر فراق في آن واحد.

مشاركة :