نورهان البطريق تكتب: ما بين الغربة والحنين‎

  • 2/12/2018
  • 00:00
  • 7
  • 0
  • 0
news-picture

سافر أحد الجيران بحثًا عن لقمة العيش وطمعًا في مستوى مادي أفضل، وافقت الزوجة في أول الأمر طوعًا لرغبة زوجها، وقبيل السفر وضع كلاهما الأسس والمعايير التى سيتبعها أفراد البيت حال غياب الأب، امتثل الجميع للقوانين الأسرية في الفترات الأولى من السفر، ولكن مع طول فترة الغياب انفرط العقد وشرع الجميع في الانحراف عن هذه المعايير، حيث بدأ كل منهم التصرف حسب هوى نفسه وبالطريقة التى تحلو له.حاولت الأم أن تنقل أحوال بيتها التى تنحدر يوما تلو الآخر، ولكنها فشلت، فالكلمات كانت عاجزة عن وصف ما آل إليه بيتها، ألحت عليه مرارًا وتكرارًا في طلب العودة والاستقرار نهائيا حيث نشأ وانتمى، ولكن طلبها كان دون جدوى وكأنها تكلم نفسها، كان يصم أذنيه حال مجيء السيرة ويتهرب منها بكل الحيل، ألزمت نفسها بالصمت حين علمت أن الكلام بلا فائدة ودون نفع.مرت سنون كثيرة على هذا الحال حتى طفح الكيل بالزوجة أثناء إحدى المكالمات الإلكترونية التى كانت تدور بينها وبين زوجها، فكانت أشبه لـ"المكالمة النارية "حيث قررت أن تبوح بكل ما يكمن في صدرها، فكانت بين أضلعها براكين خامدة من الغضب في انتظار أي شرارة لتفجر  بداخلها، وها هي حانت ساعة الخلاص.قالت: ألم يأت بعد موعد الاستقالة؟!رد ببرود: لا (صمت فترة ليست بقصيرة )اندفع غاضبا: ألا تملي من الحديث بشأن هذا الأمر؟انطلقت صرخة كادت تزلزل أركان المنزلقالت: لم أعد أتحمل العيش وحدي، لم أعد قادرة على تحمل المسئولية أكثر من ذلك.ارتعش جسدها وخارت قواها وارتمت على الكرسي المقابل للجهاز الإلكتروني.تابعت بتوسل: أرجوك، ضاعت أجمل سنين عمري عبر الأسلاك في سبيل جمع المال، كنت أفتقدك في أشد الأوقات حيث الضيق، والتعب، والمرض، والأزمات، والصعاب، كنت في حاجة إلى السند ولكنه دائما كان مفقودًا، أظن أنه كان ثمنًا كافيًا نظير تحقيق أحلامك وطموحات، فلنكتفي بهذا القدر.قاطعها محذرًا: إياكي أن تقولي هذا، مازال هناك أهداف وأعمال أستطيع أن أنجزها في سنواتى القادمة، ولن أسمح لك بتحطيم أحلامي التى يمكن من خلالها تكوين ثروة هائلة.حاولت أن تستعيد قوتها وأن تتمالك نفسها حتى تنطق بالكلمة التى ظلت حبيسة أكثر من عشرين عامًا، حان الأوان أن تفرج عنها وتطلق سراحها.أردفت بهدوء: حسنا، طالما اخترت المال، فعلينا أن ننفصل، لي مطلق الحرية في اختيار الطريقة التى سأعيش بها مثلك تماما.انطلق وابل من الإهانات وإلحاق الاتهامات بها لكي يوهم نفسه أنه غير مسئول عن هذه الحالة التى وصلت إليها.قال: تريدين الطلاق من أجل الزواج بآخر، أتبحثين عن حياة جديدة مع غيري.ثم تقمص دور الضحية، وزعم أنه حرم نفسه من كل متع الحياة من أجل توفير متطلبات الحياة وحتى تنعم بحياة الرفاهية التى تتمناها أي زوجة مماثلة لها.كانت تدرك أنها ستسمع هذه الأسطوانة المشروخة، فكثيرا ما تأثرت بها وكانت السبب في التراجع عن قرارها، فقد اعتادت مسامعها على وقع هذه الجمل التى كانت دوما تتلاعب بمشاعرها وتلجم لسانها، ولكنها كانت هذه المرة حاسمة.قالت بحزم: الرجوع أو الانفصال، ولك القرار.فهم من كلامها أنه لا فائدة من المراوغات ولا داعي لاستخدام الحيل التى كان يستخدمها سابقًا من أجل البقاء أطول فترة ممكنة.نبس بالكلمة غير المتوقعة: أنتِ طالقاصطدمت رياح جملته العاتية بسحاب صبرها المحملة بأكوام من الهموم والأوجاع، فانهمرت دموعها فيضانا تشي بسنوات عمرها التى ضاعت هباءً، فالكلمة كانت بمثابة صفعة أفاقتها من غيبوبة السكون، فوجدت مرحلة الشباب قد رحلت في غفلة، فهي على أعتاب مرحلة الشيخوخة دون سابق إنذار، فقد زحف المشيب إلى رأسها وترك الزمن تجاعيده على ملامح وجهها.صحيح أنها كانت تطلب حريتها كثيرا ولكنها كانت مجرد لفظ يرفضه عقلها ويأبى قلبها تصديقه وتتنصل منه أوصالها، كانت تتحجج به لما تود أن تسمع من أنها الكفة الراجحة مهما كانت تحتويه الكفة الأخرى من مغريات، ولكنها أدركت في النهاية أنها مجرد آمال واهية، وأن الواقع له رأي مخالف لمخيلتها.الغربة: أشبه بالاتفاقية كلما أعطت شيئا لابد أن تأخذ مقابله شيئا آخر، فقد تبادر أولا بالعطاء حتى تجذبك لدوامتها وتصنع لك بريقها المزيف ولمعانه المصطنع المتمثل في المال، فكل سنة تجر ما تليها ، فأنت تلهث وراء الماديات وتطمح إلى ما هو أفضل من خلالها، وعلى الجانب الآخر تتسرب سنوات عمرك من بين يديك دون علمك، فقد يصبح قرار العودة متأخرا عندما تتسلح الزوجة بسلاح الاستغناء، فأنت من دربتها عليه قبل سفرك فليس غريبا أن تسلطه عليك عند عودتك، أما عن أولادك، فقد أصبحت مجرد بنك يسحبون منه المال عند الاحتياج يلجأون إليه وقت الحاجة فقط لا غير، فأنت مجرد زائر يزورهم بين الحين والآخر ولا يشعرون تجاهك بأي مشاعر تنم عن البنوة والأبوة، وقد تكون ضيفًا ثقيلًا ينتظرون ميعاد سفره بفارغ الصبر.الغربة: سجن بلا قضبان، ففي أحيان كثيرة قد تتمكن من المغتربين ولا تحررهم إلا في حالة واحدة ووحيدة وهي حال خروج الروح من الجسد.

مشاركة :