في واحدة من التفاتاتها الكثيرة التي تتقاطع فيها الروائية مع الراوية، تقول الكاتبة السورية لينا هويان الحسن في روايتها «بنات نعش» (منشورات ضفاف - منشورات الاختلاف): «قبل أن أجرّب تدوين حكاية الأبهر، كنت أظن أن الكتّاب يختارون أبطالهم، لكنني اكتشفت أنهم هم الذين اختاروني... اصطادوني، وكل ما يمكنني فعله هو تتبّع مساراتهم دون أن أعرف: هل أنا بصدد قصة أم رواية أم سيرة؟» (ص 187). على الغلاف نقع على مصطلح «رواية»، ومصطلح «سيرة» في العنوان الفرعي: «سيرة صيّاد الوحوش على ضفاف الفرات الأبهر سعدون». هذه البلبلة في استخدام المصطلحات تطرح إشكالية النوع الأدبي، والتداخل بين الفروع السردية المختلفة، وعدم وجود هويّة أدبية صافية لهذا الأثر أو ذاك، فنحن كثيراً ما نكون إزاء هويّات أدبية مركّبة تتمظهر في كتاب معيّن، غير أن طغيان إحداها على الأخرى هو ما يمنح الكتاب هويّته الأدبية. وعليه، فإن «بنات نعش» هو رواية. تستمد لينا هويان الحسن عنوان روايتها من المعجم الفلكي الأسطوري، «فكوكبة بنات نعش الكبرى هي نفسها مجموعة الدب الأكبر، والصغرى هي مجموعة الدب الأصغر». وفي الأسطورة العربية، «نعش» هو رجل قُتِل على يد آخر اسمه «سهيل»، أقسمت بناته السبع على السير بنعش أبيهن حتى الأخذ بثأره، غير أنهن أخطأن القاتل الحقيقي الذي توارى عن السماء لتذهب شكوكهن إلى نجم الجدي البريء. الأمر نفسه ينطبق على بطل الرواية الذي يُتَّهم بجريمة لم يرتكبها، ويغدو طريد الثأر. تدور أحداث الرواية في عشرينات القرن الماضي، خلال مرحلة الانتداب البريطاني على العراق، في منطقة حوض الفرات، وتمتد إلى بعض المدن، فالفضاء الروائي هو بدوي - صحراوي غالباً، وحضري - مديني نادراً. وتتناول حكاية الأبهر سعدون، آخر صيادي الأسد الفراتي المنقرض، بما فيها من كر وفر، ومغامرة، وغموض، وحب، وغرابة، ومطاردة، وتخفٍّ. وتفعل ذلك من خلال رصد حركة الشخصية في المكان والزمان، وتموضعها في شبكة علاقات، عابرة غالباً، تتناسب مع حياة اللااستقرار التي يفرضها الوسط الصحراوي - البدوي، وتتراوح أطرافها بين المجير، والصديق، والخصم، والعدو، والغريم، والحبيب، والتابع، والمرافق... على أن ما يجمع بين هذه الأطراف أنها تؤول إلى نهايات قاتمة ومصائر فاجعة، فتموت قتلاً أو اغتيالاً أو ثأراً، ما يعكس ناموس الصحراء وقوانينها حيث البقاء للأقوى. تسعى الكاتبة إلى كتابة سيرة الصياد الذي يصطاد الوحوش ويتاجر بجلودها، لكنّ مجريات السرد تقدّم لنا طريداً أكثر منه صيّاداً. وإذا بالأبهر سعدون موضوع مطاردة لا تنتهي طلباً بجرمٍ لم يرتكبه أو أخذاً بثأر، يتعرّض لمحاولة اغتيال خلال توجّهه إلى مطحنة قديمة مهجورة على نهر الفرات للقاء بعض الصيادين. يتعرّض لإطلاق نار ويُصاب في فخذه خلال زيارة صديقه البيك الشاب في حلب. يتعرّض للهجوم في «رجوم اللبن» من جانب مانع ابن الشيخ مدلج الذي نخرت رأسه سوسة الثأر لدهام النافع، عقيد حرب العشيرة، وينتهي الهجوم بمقتل مانع. يتعرّض للمطاردة من جانب خورشيد، زوج حبيبته ماران، التي فرّت إليه تجديداً لحبٍّ قديم، ما يؤدي إلى مقتل الزوجين... وهو ينجو من هذه المطاردات إلى أن ينتهي نهاية غامضة، غريبة، حين يختفي في قلب زوبعة رملية. بذلك، يكون الأبهر سعدون صياد الوحوش وطريد البشر. لا تقتصر مغامرات الأبهر على الطراد والتخفّي والصيد، بل تمتد إلى الغرام، فيخوض مغامرات غرامية، عابرة أو عميقة، يُطفئ شهواته في بيت «ناره» في بيروت. يُمضي ليلة حمراء مع الست سلمى زوجة البيك. يخترع عشقاً لفتاة اسمها «نجمة» يشغله عن هواه بـ «ماران». على أن هذه الأخيرة هي حب حياته الذي ينتهي نهاية فاجعة غريبة، فالأبهر الذي يتردّد في الارتباط بها في البداية، يغرق في ندمه حين تؤول إلى غيره، حتى إذا ما تدبّر أمر فرارها من بيت زوجها، يكتشف الأخير الأمر ويطاردها خلال عبورها نهر الفرات، فتموت غرقاً، ويقوم الأبهر بنبش قبرها وضمّها إلى صدره ميتة، ويدفنها في مكان لا تطأه أقدام العابرين، في نهاية مأسوية غرائبية لقصة حب مستعرة. على هامش هذه الشخصية المحورية، تدور شخصيات أخرى ثانوية، توجد من خلال علاقاتها بالأولى، فيطالعنا: زعل، الشاب الحجازي الشجاع، الكريم المحتد، المغامر، الهادئ، الصبور. مشهور، الفارس ذو اليد الواحدة الذي يتقاعد من أعمال اللصوصية والسرقة. فارس، الصياد الدخيل عند إحدى العشائر الذي يتعرض لمكمن، ويتزوج ويموت في الليلة نفسها. تامر، اللص الورع الوسيم الذي تعرّف إليه الأبهر في السجن. مية، اللبوءة التي يربيها الأبهر بعد اصطياده أمها، فتتعلّق به حتى إذا ما حاولت النيل منه يبيعها إلى سيدة فرنسية. مدلج، شيخ العشيرة الذي يُجير الأبهر، ويتّهمه بقتل عقيد العشيرة دهام النافع... على أن هذه الشخصيات وسواها، على ثانويتها، ليست ديكوراً للشخصية المحورية أو تنويعاً عليها، بل هي مكمّلة لها، تلعب أدواراً متمّمة البازل الروائي، ولو قصيرة وعابرة. في روايتها لا تقتصر الحسن على روي حكاية الفرد، بل تروي من خلالها حكاية الجماعة. لذلك، تحفل الرواية بمعلومات أنتروبولوجية عن البدو، وأنماط عيشهم، وطرائق تفكيرهم، وعاداتهم، وتقاليدهم، وقيمهم، وطباعهم، ما يمنح النص قيمة معرفية تُضاف إلى قيمته الروائية. في روائية النص، تتألف الرواية من ثماني وحدات سردية، يُصدَّر كلٌّ منها بعتبة فلكية أو تاريخية أو أدبية، تُشكّل مفتاحاً لولوج الوحدة، وتقيم علاقة تناغم معها. والعتبات التاريخية ترسم الإطار الذي تجرى ضمنه الأحداث، وتحقّق تاريخية الروائي. بذلك، يكون اختيار العتبات هادفاً، ويعكس جانباً من ثقافة الكاتبة. في الشكل، تتعاقب المشاهد السردية والوصفية داخل الوحدة السردية، تفصل بينها مساحات بيضاء هي عبارة عن فواصل إخراجية. وفي المضمون، يجرى الانتقال من مشهد إلى آخر لوجود قرينة لفظية، أو شخصية، أو مكانية، أو نفسية تستدعي الانتقال، فإحساس الأبهر بالهزيمة يذكره بالإحساس الذي دهمه ليلة عثوره على غريمه دهام النافع مضرّجاً بدمه ويدفعه إلى تذكّر حكايته، ومروره بمغارة «عروسة جني» يجعله يستعيد ما ارتبط بها من حكايات الجن، وشعوره بالألم في ساقه خلال فراره يجعله يتذكّر الرصاصة التي أصابتها لدى زيارة صديقه البيك في حلب ويستعيد حكاية ذلك الصديق... هكذا، تتناسل الحكايات، بعضها من بعض، في تقنية عرفها التراث السردي العربي، لا سيما في «كليلة ودمنة»، و «ألف ليلة وليلة». على أن الانتقال بين المشاهد السردية والوصفية يمكن اختصاره بالعلاقة بين المكان والزمان أو بين الوقائع والذكريات، فحركة الشخصية في المكان تتناوب مع حركة الذاكرة في الزمان... والسرد هو هذا الانتقال بين المكان والزمان أو بين الوقائع والذكريات، في حركة تشبه حركة المغزل الذي لا تني الكاتبة تذكّر به، في إحالة إلى التشابه بين حكي الحكايات وغزل الخيوط. سواءٌ اختارت الكاتبة أبطالها أم اختاروها هم، فهي قدمت نصّاً روائيّاً مفيدًا بما تضمّنه من مادة معرفية متنوّعة، ممتعاً بما اشتمل عليه من براعة الغزل، فحقّقت هدفَي الأدب المعروفين عبر التاريخ.
مشاركة :