لم أجد أجمل تعبيراً عن الموضوع أدناه من العنوان أعلاه، رغم صعوبته وغرابته. وهذا العنوان أبدع فيه من قام بترجمة مذكرات الرئيس السنغافوري الأسبق لي كوان يو، حيث عبر من خلاله عن مايقصده الرئيس. اكتشف الرئيس السنغافوري في بداية تأسيس بلاده، أن بنوكها تتصف بالمحلية وغياب البعد الدولي والمنافسة العالمية عن فكر القائمين عليها، وأنها بهذا الفكر لن تستطيع أن تحقق طموحاته ورؤيته في تحويل سنغافورة إلى بلد متطور ومركز للمال والأعمال. أدرك، بعد نظرة تأمل، أن السبب يكمن في أن القائمين على مجالس تلك البنوك، ومديريها والعاملين فيها، جمعيهم من أبناء البلد، الذين تخضع بنوكهم لدعم الدولة وحمايتها، وأنهم يعيشون في بيئة تتصف بالهدوء، والبساطة، وعدم المنافسة، مما أبعد من هاجسهم وتفكيرهم مسائل مثل التطوير والإبداع والابتكار. الحل، وفق فلسفة لي كوان يو، هو أن يستقطب أفكاراً من الخارج، ويدعم مجالس إدارات تلك البنوك وقياداتها، بأناس من جنسيات أخرى، ممن كانت لهم خبرة العمل في بنوك عالمية، ومن الغرب تحديداً. النتيجة أن زادت المنافسة بين تلك البنوك، واختلفت بيئة العمل داخلها، لترتقي تلك المؤسسات، وتنقل معها بلدا صغيرا بحجم سنغافورة وتضعها في موقع يعلمه الجميع. يبدو أن هذه السياسة ليست جديدة، وإن كان لي كوان يو، مارسها علناً وحسب خطة واضحة، إذ أن الدول الغربية، وأمريكا تحديداً، لم تتقدم في الكثير من إبداعاتها ومنتجاتها واكتشافاتها إلا من خلال عقول جاءت من الشرق والغرب، وأتيح لأصحابها المجال لتعمل وتبدع، بعد أن توجد لها المؤسسات المناسبة والبيئة الحاضنة أولاً والداعمة للإبداع والتطوير ثانياً. وهذا أدى إلى أن أصبحت الاكتشافات والاختراعات تنبت في دول الغرب والشرق، وتتكاثر كالفطر وعلى أيدي أبناء شعوب دول هي في النهاية من يستقبل النتائج ويدفع التكاليف ويدعم تلك الجهود. هذا الحديث لابد منه، للتأكيد على أن الفكر والعلم لا جنسية لهما، وأن الدول الراغبة والحريصة جداً على أن تتقدم في سلالم التنمية ومراتبها، عليها أن تكون أكثر وعياً وإدراكاً لذلك من ناحية، وأكثر تسامحاً للاستفادة من فكر وعلم غير أبنائها من ناحية أخرى. لذا فإنني أستغرب هذه الحساسية الزائدة، ورد الفعل المبالغ فيه، بل والرافض أحياناً، حينما تقوم الجامعات ومراكز البحوث، سواء في داخل تلك الجامعات أو خارجها، بالاستعانة بالمبدعين والمميزين من جنسيات مختلفة، بل والأعجب من يخرج للمطالبة بتوطين كافة الوظائف الأكاديمية والبحثية ويعتب على الجامعات، تحديداً، حينما تستعين بأساتذة وباحثين من جنسيات مختلفة، وكأن الجامعات ومراكز البحوث محلات تجارية بالإمكان توطين وظائفها أو سعودتها كما هو المصطلح الشائع. إذاً فالفكر والبحث لا جنسية لهما، والدول التي تسعى إلى التقدم عليها أن تحسن الاستفادة منهما، والاستغلال الأمثل، للعقول التي تساعدها في تحقيق ذلك الهدف، بعيداً عن جنسيات تلك العقول. أتمنى أن لا تأخذنا الحماسة لموضوع السعودة، لدرجة لم نعد نفرق معها بين إمكانية وأهمية سعودة المحلات التجارية ومراكز البيع والشراء، وبين سعودة الجامعات ومراكز البحوث. أتمنى أن لا نقتل جامعاتنا ومراكز بحوثنا وحتى شركاتنا وبنوكنا الكبيرة باتباع مبدأ "الاستيلاد الداخلي" الذي اكتشفته سنغافورة قبل أربعين عاماً وتجنبته في حينه، لتصل إلى ماوصلت إليه. فالماء من المهم ان يتجدد، والأفكار بحاجة أن تتلاقح، ويتنافس أصحابها على الإبداع والإنتاج، ولذلك فلن أتردد بالمطالبة بتخصيص نسبة معينة من أعضاء هيئة التدريس والباحثين في بعض الأقسام الجامعية ومراكز الأبحاث لدينا لجنسيات ودول محددة.
مشاركة :