الشجر يموت واقفاً

  • 8/17/2018
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

كنت أشفق عليه أواخر أيامه وهو يصارع المرض الذي صاحبه مشتدا عليه تسع سنين فهما يجتلدان يغالبه بروح متفائلة وهمة عالية يحرص فيها على ممارسة برنامجه اليومي من تردد على مسقط رأسه حيث مزرعته الأثيرة وفتح باب بيته لمحبيه يتجاذب معهم أطراف الحديث وطريفه ولذائذ الذكريات وخالص النصح ويختلي بعد ذلك مع صديقيه الذين لا يفارقانه الكتاب والراديو وحين يقوى عليه المرض ونضطر إلى دخوله المستشفى فلا يعني ذلك إلا فرصة لمزيد من القراءة للصحف والكتب واتصالاته بمحبيه ليطمئنهم على صحته مخبرا أنه في استراحة محارب مستعجلا الخروج ليعود زارعا روح التفاؤل مبغّضا التشاؤم والمتشائمين وزارعي الكآبة لمجرد الكآبة يجمع خلص محبيه لزيارات إكرام وتكريم في مجالس حافلة لا يريد أن يغيب عنه واجب أو أن يحصل منه تقصير في إكمال شأن بشخصية قوية وروح أبويه لا يرضى لنا أن نركن لكسل أو قصور حتى عندما عجز عن الكتابة بيده وضعف بصره عن القراءة كان يملي علينا مقالاته ونقرأ عليه عناوين الصحف ومقالات بعض الكتبة مستفسرًا عن آخر أخبار وسائل التواصل الاجتماعي ثم يتذكر محبيه فيصلهم برقيق العبارات وكريم الهدايا يتحامل على نفسه كل يوم ليشرف على أعمال مزرعته التي عمرها وأعاد إحيائها وربما خرج من جلسات الغسيل إليهافأتجرأ عليه أحيانا وأنا أرى جسده الواهن الذي حطمه السن وتسلط عليه المرض ومصيبة فقده لولده وزوجه في عام واحد لو رحمت جسدك فيجيبني بإجابة لخصت لي نظرته لمعنى الحياة قائلا يا بني خلقنا في الأرض لعمارتها والمنية آتية لا محالة وستأتيني ماشيا أو راكبا أو نائما أو جالسا أو على أي حال أسأل الله حسن الختام والحياة نعمة فعشها حتى ولو بقي لك ساعة من عمرك ، اعمرها وعجيب منك وأنت تدرس لطلبتك الحديث ألم تسمع قوله صلى الله عليه وسلم ” إن قامت الساعة وفِي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها ” أن يصدر منك هذا الكلام جواب مفحم يصدقه الواقع العملي الذي أراه والفهم للدين بلا تكلف ولا تقعر هكذا كان مُذ تفتحت عيناي على الدنيا حتى اللحظات الأخيرة ونحن نردد عليه الشهادة فيلتفت إلينا بنظرة المنكر ثم يهز رأسه كأنه يقول لا أحتاج من يذكرني فما تقولونه أنا الذي أذكركم به ثم نسمع صوته الذي ذوى يرددها هكذا رأيت بأم عيني حقيقة قولهم الشجر يموت واقفا أكنت تنظر إلى موعد لحظة مفارقتك الدنيا عندما أمليت علي مقالك الأخير آخر شهر رمضان ثم قلت لي في شهر ذي الحجة إن شاء الله سأتوقف عن الكتابة ولم تنقض منه ليلتان حتى جف المداد وترجل الفارس عن صهوة الجواد ولوح بيده لي أن وداعا يا شيخنا رحمك الله يا والدي العزيز يا صديقي الوحيد الأديب التفي النقي الشيخ محمد بن عبدالله بن حميّد.. وإنا لله وإنا إليه راجعون.

مشاركة :