تشهد الولايات المتحدة منذ وفاة عضو مجلس الشيوخ عن ولاية أريزونا جون ماكين، قبل أسبوع ونيف، أجواء حداد واسعة، في الأوساط السياسية والإعلامية والاجتماعية على حد سواء. والدوافع لهذه المشاركة غير المسبوقة في التعازي العامة والخاصة، وفي التعبير عن الحزن لرحيل ماكين، تختلف وتتباعد، لكنها تصبّ في نهاية المطاف في إدراك أن غيابه يسلط الضوء على التحولات العميقة التي تشهدها الحياة السياسية في البلاد. يجمع جون ماكين في سيرة حياته العديد من المقومات التي يثمّنها جمهور المواطنين في الولايات المتحدة. فالوطنية هنا غالباً ما تقاس بمقدار الاستعداد للتضحية، أي الخدمة في القوات المسلحة، وجون ماكين يأتي من أسرة قد تداول فيها الجد فالأب ثم الابن الانخراط في السلك العسكري والخدمة الطويلة المشهودة. جد ماكين كان من القادة العسكريين لبلاده في مواجهتها لليابان خلال الحرب العالمية الثانية، ووالده كان قد رأس قيادة منطقة المحيط الهادئ خلال حرب فيتنام في الستينات، وجون ماكين، أيضاً، بعد الدراسة غير المتألقة والتدرب في معهد البحرية في أنابوليس، كان له دور في العمليات الحربية في فيتنام. تلك كانت البداية. فبعد مشاركته بطلعات جوية استهدفت البنية التحتية في هانوي، خلال تصعيد أميركي لحرب راوحت مكانها، أُسقطت طائرته وأصيب هو بجراح تضاعفت حين أمسك به أهل هانوي، قبل استيداعه سجن الأسر. وبعد أن تبين للمسؤولين في هانوي من هو والده، سعوا إلى مقايضته وإعادته المبكرة إلى الولايات المتحدة. الكثير من التقدير لجون ماكين في العقود التالية يعود إلى ما فعله عندذاك، إذ رفض أن يُعطى الأفضلية، وأصرّ على التراتبية المعهودة لإخراج أسرى الحرب، أي أن يطلق أولاً سراح من وقع بالأسر أولاً. خمسة أعوام أمضاها جون ماكين إثر ذلك، حافلة بالتعذيب والتحقير والاستنزاف، وصولاً إلى انكساره وخضوعه لرغبة سجّانيه، إذ ألزموه شهادة زائفة. وهذا فصل من حياته عاد ماكين في المراحل التالية إلى الإشارة إليه، مؤكداً خيبة أمله من ضعفه ومعلناً إدراكه لمحدوديته كإنسان. سنوات الأسر تركت لديه آثارها الجسدية والنفسية، لكن الرجل عاد ورتّب أوضاعه ليصبح منذ منتصف الثمانينات عضو مجلس الشيوخ في الكونغرس عن ولاية أريزونا. لم يكن ماكين في سنواته الأولى في موقعه التشريعي فذّاً أو بارزاً، بل تورّط مثلاً بقضية إفلاس مؤسسات الإدخار والقروض، والتي أطلقت أزمة اقتصادية كبيرة في أواخر الثمانينات. غير أنه تدرج مع الأعوام ليكتسب سمعة تعاظمت تباعاً، من أنه يتصرف منطلقاً من قناعاته والتزامه بالقيم، لا من الاعتبارات الحزبية، وأنه، على رغم انتمائه إلى الحزب الجمهوري، يتواصل وينسّق ويتعاون مع الديموقراطيين في تغليب للمصلحة العامة. هذه الاستقلالية أكسبت ماكين المديح والنقد في آن واحد، وجعلت منه في التسعينات، حين كانت الوسطية مسعى الجميع، وجهاً بارزاً. حاول ماكين نيل ترشيح الحزب الجمهوري عام 2000، لكن المؤسسة الحزبية مالت إلى مصلحة جورج دبليو بوش. حاول مجدداً عام 2008، وحصل على الترشيح، مع امتعاض واسع في الصف الجمهوري الداخلي، والذي كان المتشددون قد أمسوا الغالبين فيه، فاختار ماكين من في وسعه إرضاءهم، سارا بايلن، كشريكة انتخابية له. وبايلن هذه في شعبويتها وانعزاليتها واستـــــهتارها بالتفاصيل في الملفات كافة، تبدو اليوم وكأنها إرهاص لدونالد ترامب ونجاحه في الاستيلاء على الحزب الجمــهوري بعد عقد. ماكين في مراحل لاحقة أبدى أسفه لاختياره بايلن. وإذ يمكن إدراج الاختيار غير الموفق هذا في إطار الإقرار بما شهدته الساحة الجمهورية من انسياب نحو اليمين، فإنه كان كذلك عاملاً لمضاعفة هذا الانسياب. التفاوت الكبير بين ماكين وبايلن، أي بين الالتزام بقيم الانفتاح والمسؤولية واحترام الآخر من جهة وبين الشعبوية والتعبوية والتنمر من جهة أخرى، كان بارزاً في أكثر من موقف. يذكر مثلاً خلال لقاء مع الناخبين حين أقدمت سيدة على الطعن بخصم ماكين، باراك أوباما يومذاك، مجرّحة به بنعوت شتى، اعترضها ماكين بحزم وأدب، مشدداً على أن المسألة هي وحسب خلاف في الرؤى السياسية بين أشخاص يتوجب لكل منهم التقدير والاحترام. مواقف ماكين القائمة على احترام الخصم، وعلى الإصرار على أن الولايات المتحدة قائمة على المبادئ لا على «الدم والتراب»، استثارت عليه العداء في صفوف العديد من الشعبويين، لا سيما منهم دونالد ترامب الذي استحصل تكراراً على إعفاءات من الخدمة العسكرية الإلزامية خلال حرب فيتنام، بسبب «نتوء عظمي» في قدمه. فقد اعترض على إطلاق صفة «البطل» على ماكين، وفق الشائع في الولايات المتحدة تقديراً لسيرته العسكرية ومناقبيته. عبارة ترامب في شأن ماكين «هو وقع في الأسر، البطل بالنسبة إلي من لا يقع في الأسر» كانت الحلقة الأولى من سلسلة من التشنيعات الصادرة عن المرشح ثم الرئيس، والتي في طبيعة الأحوال، لم تقتصر قط على ماكين. ثمة من حزن لرحيل ماكين، بعد صراع دام أكثر من عام مع سرطان الدماغ، لما يمثله الرجل من قدوة في التزامه القيم التي يعتزّ بها هذا المجتمع وهذه الثقافة. وثمة من حزن لرحيل ماكين لأن مستوى البلطجة والتنمّر الذي يمارسه ترامب أخرس الجميع إلا ماكين: فهو بقي ناقداً له ولأفعاله معيباً عليه أقواله. وثمة من أظهر الحزن لرحيل ماكين تشفياً ونكاية بهذا الرئيس الذي بدا عاجزاً حتى بعد ممات الرجل عن أن يترفع عن الصبيانية، إذ امتنع ابتداءً عن نعيه، كما هو العرف الذي سار عليه أسلافه من الرؤساء عند وفاة الأعيان من مجلس الشيوخ، وأصرّ على رفض الإجابة عن أي سؤال من الصحافيين في شأنه، ولم يبدّل سلوكه إلا بعدما ظهر في مظهر الحاقد المناكف. مهما كانت الأسباب، فإن طفرة مظاهر الحداد على ماكين قد تكون في محلها، إذ ن رحيله هو وفاة مؤكدة لما تبقى من التوجه المنفتح في الحزب الجمهوري، وإشعار بانتقال هذا الحزب من منطقه الداعي إلى التعاون والمبادئ، إلى منطق ترامب الطافح بالتعيير والتسطيح والشتائم. ثلاثة متنافسين داخل الحزب الجمهوري يتبارون لملء المقعد الذي تركه ماكين: لا أحد منهم يســـتدعي ذكرى ماكين ومبادئه وسيرته، بل كل منهم يتسابق لتأكيد اندراجه في الخط الذي يرتئيه دونالد ترامب. على ماكين ونهجه السلام.
مشاركة :