ما عاد أحدٌ -باستثناء المؤرخين– يذكر تشرشل أو ستالين أو ماوتسي تونغ، على أهمية ما قام كلٌ منهم به من أعمال وإنجازات. وذلك لأمرين: لأنّ أعمال هؤلاء الكبار مختلطة بين الحرب والسلم، بين الخير والنفع وخلافه، ولأنّ مصائر بلدانهم تغيرت بعدهم إلى النقيض أحياناً. وليس ذلك شأن المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان على سبيل المثال. فقد بنى دولةً ما كان أحدٌ من معاصريه يتصور إمكان حدوثها، وقادها إلى النجاح في حياته. وسار أبناؤه على نهجه، فتحقق تقدمٌ باهر. لقد بنى الأبناء على نجاح الوالد المؤسِّس، وها هم يحتفلون بمئوية والدهم الكبير، وقد تابعوا البناء على ما أسَّس وصنع. وذلك هو الشأن مع رفيق الحريري؛ فقد أسهم في الخروج من الحرب الأهلية، وإعادة إعمار لبنان، وعلّم أجيالاً، معتمداً السلم والتوافق ومشاركة الجميع. لذا صار كل نجاحٍ في لبنان يُذكِّر بمثاله وسيرته، وصار كلُّ فشلٍ أو اختلافٍ في مسار الدولة والمجتمع يُذكِّر به أيضاً، أي لماذا نجح الحريري وفشل خصومه؟ اليوم وبعد 13 عاماً على استشهاد رفيق الحريري يعود الحريري الأب ملء السمع والبصر، لاقتراب المحكمة الدولية من إصدار الحكم على المتهمين بقتله استناداً إلى 1236 دليلاً وقرينة. وبالطبع خلال هذه المدة كلّها حدثت تغييراتٌ هائلةٌ في لبنان والمنطقة. لذا يكون لخبر مصائر المحكمة- بعد أن كاد الناس ييأسون منها- وقع الصاعقة، ليس على المجرمين المُدانين فقط؛ بل وعلى بعض كبار تياره السياسي وطائفته واللبنانيين الآخرين الذين يخشون من الاضطراب! أما الحزب الذي اتهمت المحكمة أربعةً من أعضائه باغتيال الحريري، فإنّ الأحكام على هؤلاء تأتي في زمنٍ غير ملائم له بالمرة. فقد تعملق الحزب بعد الاغتيال، وخاض حرباً ضد إسرائيل، واحتلّ بيروت، وسيطر على مؤسسات الدولة ورئاسات الحكومة والجمهورية ومجلس النواب، وانصرف خلال ذلك للتخريب بتكليفٍ من الولي الفقيه. واعتبر زعيم الحزب نفسه قوى «المقاومة» أقوى من كل الجيوش العربية! إنما في الوقت الذي تجاوَزَ فيه الذروة، وبدأ انحطاطه في خانة الإرهاب والملاحقة الدولية، تأتيه المحكمة الآن لتزيد سمعته سوءاً، وتشير إلى أنّ أمجاده خالطتها اغتيالات سياسية إجرامية أهمّها اغتيال الرئيس رفيق الحريري. لقد قَدّر الإيرانيون أن فرصتهم بالمشرق جاءت باحتلال الأميركيين للعراق عام 2003. وفيما كانوا يعودون لإحياء برنامجهم النووي، ويتغلغلون بالعراق، فقدت المنطقة بعض أهم زعمائها، مثل الشيخ زايد والملك حسين والملك فهد وياسر عرفات وصدّام حسين، فقدّروا أن اغتيال الحريري، ذا الشعبية الكبيرة في العالم، يجعل منطقة المشرق خاليةً من الزعماء الكبار. قالوا لبشار الأسد -الذي ما كان يميل للحريري بخلاف والده- إنّ الحريري تهديدٌ له حتى في سوريا. فكل الكبار في إدارة حافظ الأسد أصدقاء له. وككلّ أهل الاغتيال، ما فكّروا طويلاً في العواقب البعيدة، وعصفوا برجالات لبنان وأركان نظام الأسد الكبار بحجة إتاحة الفرصة للأسد الابن للسيطرة. لكنّ أركان حركة 14 آذار الذين كانوا أقوياء في الحكومة والبرلمان آنذاك ذهبوا باتجاه إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قَتَلَة الحريري؛ وبخاصة بعد إخراج القوات السورية من البلاد. وعندما نقول إنّ الأوضاع تغيرت كثيراً منذ مقتل الحريري عام 2005؛ فلأنّ أعداء الحريري سيطروا في كل مكان، ثم بدأ العدّ العكسي لأمجادهم وسيطرتهم حتى في العراق وسوريا. في العراق لظهور آثار تخريبهم، وفي سوريا لأنه رغم الكثير الذي قدّموه للأسد فإنّ الروس هم أصحاب اليد العليا، وهم إضافةً لتلقّيهم الضربات من إسرائيل من دون أن يردُّوا، نزلت عليهم الأعباء التي نزلت على إيران، بسبب سياسات القتل والتهجير والنوويات والميليشيات المستقدَمة من كل مكان، وتصدّي الولايات المتحدة لتغوُّلهم في عهد ترامب. في لبنان ما تزال للمشروع الإيراني الطائفي ركائزه وأنصاره. وكذلك في سوريا والعراق. لكن وحده رفيق الحريري القتيل يُطِلُّ اليوم على خصومه وأنصاره ويقول إنه ما يزال موجوداً وحاضراً؛ حاضر بمشروعه السلمي الإعماري التنموي، واستقامته السياسية العربية. *نقلاً عن صحيفة "الاتحاد"
مشاركة :