لا يكاد يخلو زمانٌ ولا مكانٌ من متعنتين على طرفي النقيض، متباينين في وجهات النظر لكن يجمعهم وصف الانحراف عن جادة الصواب؛ لخروجهم عن دائرة الاعتدال التي رسم وسطيتها ديننا الحنيف.. معلومٌ ثبوت الرؤيا وتعبيرها بالنصوص الشرعية ثبوتاً شرعياً لا مطعن فيه، ومعلومٌ بالتجربة أن من الرؤى ما يراه الناس رأي العين مطابقاً لما رآه الرائي في منامه، وحيث كثر اهتمام الكثير بالرؤى وتعبيرها، ونتيجة لذلك كثر سواد معبري الرؤى، واقتحم هذا المجال من ليس أهلاً له، ودخل في غمار المعبرين لابسو أردية الزور، وامتلأت وسائلُ التواصل الاجتماعي بالمتطفلين على هذا العلم الشريف، وصارت تصرفاتهم خطراً محدقاً بالمجتمع لما تسببه من بلبلة أفكار الناس، والزجِّ بهم في متاهات الوساوس، وتعليقهم بأوهام وأحلام وآمال، كان لزاماً أن أدلي بدلوي في إيضاح جوانب الإفراط والتفريط التي تتعلق بهذا العلم الشريف، والتي نراها في تمدد وانتشار، فأقول: لا يكاد يخلو زمانٌ ولا مكانٌ من متعنتين على طرفي النقيض، متباينين في وجهات النظر لكن يجمعهم وصف الانحراف عن جادة الصواب؛ لخروجهم عن دائرة الاعتدال التي رسم وسطيتها ديننا الحنيف. فأهل التفريط في مسألة تعبير الرؤى ينبذون وراءهم ظهريّاً هذا العلم الشريف، فلا يرون أصلاً تعبير الرؤى، بل يجعلون ذلك من قبيل التسوُّر على الغيب، والتشوُّف إلى معرفته، ويدَّعون أن ما رآه الإنسان في منامه خليقٌ بالإهمال، وعدم الاهتمام، وهذا لا شك أنه ركضٌ في ميدان الهوى، فتعبير الرؤى مسألة شرعية ثابتة بالنصوص الشرعية، فقد قصَّ الله علينا في سورة يوسف تأويل يوسف عليه السلام للرؤى العجيبة، ووقوع الأمر على حسب ما قال، وقد كان عليه السلام يَعُدُّ علمه بتعبير الرؤيا نعمة إلهية، وقد قرنها بنعمة الله عليه بالملك فقال: (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنْ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ)، والنبي صلى الله عليه وسلم عبّر الرؤى ووقعت كما عبّر، كما كان الصحابة يعبرون الرؤى في حياته، وبعد موته بلا نكير، فمن ذلك أن عمر رضي الله عنه خطب قبيل مقتله فقال: (إِنِّي رَأَيْتُ كَأَنَّ دِيكًا نَقَرَنِي ثَلَاثَ نَقَرَاتٍ، وَإِنِّي لَا أُرَاهُ إِلَّا حُضُورَ أَجَلِي) خَطَبَ بذلك يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَأُصِيبَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، ومن التابعين معبرون أشهرهم ابن سيرين الذي اشتهر بحذقه في التعبير، وإبداعه فيه، وعن ذلك قال الإمام الذهبي: «وكان له في ذلك تأييد إلهي»، وللمعبر صفات ومؤهلات يجب أن يتحلَّى بها، ومن هذه الصفات العلم، والنصح ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم «لا تقص الرؤيا إلا على عالم أو ناصح» أخرجه الترمذي وصححه الألباني، وهاتان الصفتان جامعتان تندرج في طيَّاتهما كثير من المقومات الفرعية، فمثلاً: العلم يتضمن المعارف اللازمة للتعبير من علم بالقرآن الكريم، وأمثاله ومعانيه والأحاديث والأشعار والأمثال والاشتقاق اللغوي، وفقاهة النفس، والنصح يتضمن سلامة الصدر، والبعد عن الأطماع، وعدم الاستئسار للمآرب الشخصية مما يضمن عدم انزلاق المعبر عند التعبير. أما أهل الإفراط فهم نوعان: أحدهما: مهوَّسون قد هاموا في أودية المبالغة الممجوجة، فلا يكاد أحدهم يحلم بحلم إلا بنى عليه قصوراً من الوهم، ويصل الأمر ببعضهم إلى معاملة الناس على مقتضى محتوى الرؤيا، كإيذاء من رأى في المنام أنه سيؤذيه، والتعاطي مع الشؤون الأسرية من منطلق الأحلام، وإنما أُتيَ هؤلاء من قبل تعاملهم مع رؤاهم كمسلَّماتٍ حتمية، وقطعية الرؤيا مخصوصة برؤيا الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام؛ لأنها من الوحي، أما من سواهم فهي في حقهم ظنية الوقوع، ولا يترتب عليها حكمٌ شرعي، ولا يُبرر لأجلها عدوان على إنسان. الثاني: جهلة المعبرين الذين يدغدغون مشاعر الصنف الأول، ويخطبون الشهرة بواسطة تهويل الأحلام وتضخيمها، وهؤلاء من البلاء المستطيل، والشر المستطير، وهم يفسدون في الأرض ولا يصلحون، فكم جرُّوا على البيوت من ويلات، وعلى الأسر من بلاءات، فكم فرقوا من أحباب، وكم سعّروا العداوة بين الأقارب بسوء جهلهم، وقلة علمهم، وأخطر نماذج هذا الصنف من يرقى بالرؤى إلى درجة استنباط الحكم الشرعي منها، ويجعلها مصدرَ علمٍ بالغيب، ومن خلالها يُغدقُ على الفئات الضالة الوعود بأنواع الثواب والنصر؛ لتحريضها على الاستمرار في نهجها المعوجّ، والمرجوُّ من أهل الشأن والمسؤولية الأخذ على أيدي جهلة المعبرين على اختلاف أشكالهم، وتنوع مشاربهم، وحماية المسلمين والمجتمع من شرهم.
مشاركة :