إميل أمين يكتب: القضية الفلسطينية والعيش المشترك

  • 9/22/2018
  • 00:00
  • 7
  • 0
  • 0
news-picture

في مقدمة القضايا التي يحاول الإحتلال الإسرائيلي اللعب عليها مسألة العيش المشترك لاسيما بين المسلمين والمسيحيين، في الداخل الفلسطيني، وقد حاول طويلا جدا زرع بذور الفتنة،لكن المثير إلى حد الدهشة أن الثمار جاءت على عكس شهوات قلب المحتل، إذ يزداد العيش المشترك قوة ومتانة كلما تكاثرت الأزمات وطالما بقي المحتل ساعيا في محاولاته لتمزيق النسيج  الإجتماعي الواحد الذي عاش في كنفه الجانبان عبر ألفي وأربعمائة عام من قبل. ما الذي يستدعي إعادة هذه القراءة ومن جديد هذه الأيام والمسألة برمتها بديهية ؟ قبل نحو أسبوعين التقي  وفد مجلس العلاقات العربية الدولية وجل قيادته من أبناء الشعب الفلسطيني، الحبر الأعظم البابا فرنسيس في حاضرة الفاتيكان، وقد حمل الوفد رسالة موجهة إلى البابا يشيدون فيها بالمبادرات والمواقف الانسانية النبيلة والكبيرة التي يقوم بها، ويطالبونه بالإستمرار في هذا النهج والتوجه من أجل تعزيز العيش المشترك في المنطقة العربية. ما الذي حملته الرسالة بشئ من التفصيل وما دلالات ما ورد بها؟.. تقول بعض من سطور تلك القراءة المعمقة في معانيها ومبانيها “إننا كمسلمين ومسيحيين نشعر بالحاجة إلى التفكير الجدي بالمشكلات والتحديات التي تواجه منطقتنا، وإلى ضرورة مراجعة وتجديد العقد الإجتماعي الوطني على أسس من إحترام الحريات العامة وحقوق الإنسان، وقيم العصر الإنسانية الرفيعة والدولة المدنية، وهي الأمور التي تضمن الحرص على العيش المشترك الذي لطالما كان سائدا على الدوام في شتى بلدان المنطقة”. سطور الرسالة تحمل مضامين جوهرية مضادة للمشروع الإسرائيلي القائم على قدم وساق بهدف تهويد القدس وتفريغها من سكانها الأصليين مسيحيين ومسلمين من العرب، لتصل يوما ما إلى وجود يهودي فقط ما يعني نوع من أنواع الحرب الديموغرافية على أصحاب الأرض وسكانها التاريخيين، الأمر الذي تحرمه الشرائع والنواميس الإلهية والأدبية على حد سواء، وتجرمه كذلك  القوانين الدولية بوصف اسرائيل قوة احتلال وعليها ألا تغير الطبيعة السكانية للأراضي المحتلة. في المنطقة العربية برمتها ظهرت الأديان السماوية الثلاثة، وعليه فهناك أهمية كبرى من أجل الحفاظ على هذا العيش المشترك لنموذج يحتذى به في المجتمعات ذات التنوع الديني والعرقي، وهي المبادرات التي يمكن أن تسهم في إرساء الحوار والتعاون بين ضفتي المتوسط ، حتى يصبح هذا البحر بحر الشراكة الإنسانية والثقافية والتعاون الاقتصادي بدلا من أن يتحول إلى مستنقع للموت والتهجير. ليس سرا أن هناك من تلاعب طويلا جدا بالحركات ذات الملمح والملمس الأصولي، ويوما تلو الآخر تثبت لنا التجارب أن إسرائيل لها أياد خفية في إشعال نيران التطرف، فكما تفعل في الداخل الفلسطيني هكذا أيضا تقوم في العالم العربي ببث سمومها وشرورها لخلق مناخات من الكراهية التي لا تقود إلا للعنف والإحتراب الأهلى والطائفي كما الحال في السنوات الثماني المنصرمة، وفي أعقاب ما عرف زورا باسم “الربيع العربي”. ما تقوم به سلطات الاحتلال تجاه التعايش المشترك في الأرض المحتلة هو نوع من أنواع قطع الطريق على الرسالة الأصلية والأصيلة لتلك المنطقة ضمن دورها الحضاري المحوري، ولهذا اعتبرت رسالة مجلس العلاقات العربية الدولية للبابا فرنسيس “أن الوجود المسيحي العريق بالمنطقة العربية والعيش المشترك مع المسلمين هو بحد ذاته رسالة وهو المستهدف والذي يراد له من قبل البعض أن ينتهي، وعلينا جميعا التعاون في فلسطين والعراق وسوريا ولبنان لكي لا يحصل ذلك”. الرسالة المشار إليها تلفت الإنتباه إلى مسألة الحوار وضرورة تفعيله، سيما وأن الأهداف العظيمة والمقاصد النبيلة تستدعي حوارا عميقا صريحا حوار من المودة والعقلانية، وبعيد عن فخاخ المصالح البراجماتية الضيقه، وبخاصة أن نتائج الفشل في التواصل كارثية. الحفاظ على العيش المشترك بين المسيحيين والمسلمين في عموم العالم العربي عامة، وعلى الأراضي الفلسطينية بنوع خاص يستدعي إقامة جسور للحوار والتنسيق مع جميع القيادات والهيئات والمنظمات العربية والدولية، وعلى رأسها  القيادات الروحية الإسلامية والمسيحية لدرء خطر المؤامرات التي تصاغ في الليل البهيم للعرب كافة. والثابت أن القواسم المشتركة والتاريخ الإنساني الكبير لأبناء الشرق يتطلب إستدعاء هذا المعين الحضاري في حاضرات أيامنا لمواجهة الإشكاليات والعقبات الكبيرة الموضوعه في الطريق، والتطلعات اللازمة لإدراكنا جميعا لأهمية إستقرار إزدهار المنطقة وتحقيق العدالة لجميع شعوبها وطوائفها، بما يعنيه ذلك من أهمية حيوية قصوى لأمن وسلام العالم أجمع. تكاد أزمات الأصوليات الظلامية في العقد الأخير تذكرنا بالفترة التي ظهر فيها تيار القومية العربية، ففي تلك الأيام كان الظلام الذي دام عثمانيا قرونا طويلة قد بلغ آخر الطريق، وعليه لم يعد هناك وقتها من سبيل سوى الثورة عليه، وبدا طرح القومية العربية هو الحل وهو المفر. كان المسيحيون العرب في أوائل الصفوف للداعين للتحرر الفكري والجغرافي، وقد كان اتصال قسم بالغ منهم وبخاصة الشوام العرب بالغرب وفرنسا تحديدا عاملا مهما للغاية، حيث سادت هناك الأفكار القومية والتحررية. ومابين العرب المسلمين الذين قادوا الثورة العربية والنهضة العربية العسكرية، والمسيحيين العرب الذين لعبوا دورا رياديا في مجالات الفكر والثقافة وتضافر الجهود بين الطرفين لرفعة شأن الأوطان العربية، بزغ نموذج من نماذج النجاح الإنساني في خمسينات القرن الماضي وازدهر تيار القومية العربية ذاك الذي أجاد القفز على حواجز الطائفية والمذهبية، الأمر الذي تنبهت له إسرائيل بنوع مبكر وعملت ولا تزال على فض قوى تلك الشراكة ودفعها إلى مجالات الخلاف والتشارع والتنازع، على أمل واه لن يتحقق بكل تأكيد. لماذا زيارة مجلس العلاقات العربية والدولية لحاضرة الفاتيكان وتسليم مثل هذه الرسالة للجالس سعيدا على كرسي ماربطرس  تعد مزعجة لإسرائيل؟ الجواب ربما استفضنا في شرحه في مقالات ودراسات عديدة سابقة لكن لا بأس من التذكير، سيما وأن ذاكرة العوام كما يقال لاتزيد على ثلاثة أعوام. بداية تبقى المؤسسة الفاتيكانية العدو الكبير واللدود للفكر الصهيوني عامة منذ زمن بعيد يرجع الى العام 33 ميلادية، أي أيام حنان وقيافا رؤساء كهنة اليهود في عهد السيد المسيح، وهو إرث امتد إلى بن جوريون ومن بعده جولدا مائير، وجميعهم اعتبروا بابا روما العدو الأكبر لليهودية طوال تسعة عشر قرنا. في هذا السياق يفهم المرء الأهمية الأدبية للكرسي الرسولي، سيما مواقفه الرافضة لتهويد القدس وجعلها مدينة يهودية، بل أنه ومنذ زمن البابا بيو العاشر والفاتيكان يرفض السيطرة اليهودية على الأرض المحتلة. لم يقم الفاتيكان علاقات رسمية مع إسرائيل إلا بعد اتفاقية أوسلو، ورغم ذلك يبقى التوجه الفاتيكان رافضا للهيمنة أو على الأصح العربدة الإسرائيلية في الداخل الفلسطيني، وإهدار كرامة الانسان العربي الفلسطيني، مسيحي كان أم مسلم. تعلم إسرائيل أن صوت البابا مسموع لدى أكثر من مليار وثلاثمائة مليون كاثوليكي حول العالم، ونحو ثلاثة مليارات مسيحي حول الكرة الارضية، ولذلك يبقى البابا كما يقول المفكر الأمريكي الكاثوليكي الكبير “جورج ويجل”، قوة وسلطة إقناع غير عادية وفائقة للوصف، وعلى هذا الأساس لا تتطلع إسرائيل للتعاطي مع البابا بشكل مباشر، ولكنها تلتف على المؤسسة الكاثوليكية بطريقه أو بأخرى في محاولة لإضعاف سلطة ونفوذ ذلك الكيان الكبير، والذي وصفه وول ديوراتت في كتابه عن قصة الحضارة بانه أهم مؤسسة بشرية عرفها التاريخ . هل الهجمة الأخيرة  في الإعلام الأمريكي  على البابا فرنسيس أداة من أدوات تلك الحرب الصهيونية الخفية على المؤسسة الكاثوليكية؟ أغلب الظن أن ذلك كذلك وللقصة قراءة أخرى قريبا إن شاء الله.

مشاركة :