هل من علاقة ما بين نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة في ألمانيا وبين القضية الفلسطينية والسلام الضائع الذي تصر اسرائيل على تسويف الوقت كي لاتجري به المقادير؟. قد يجيب مجيب وما العلاقة بين الأمرين؟ سيما وان هذا يقع أقصى الغرب والآخر في الشرق؟. لكن من الواضح أن هناك درسا ما لاتريد إسرائيل أن تتعلمه، وهو أن السلام هو الحصن الأكيد الذي يضمن لليهود حول العالم الأمن والسلم، وأن الرهان على السيف هو رهان خاسر، ذلك أن من يعيش على حد السيف حكما سيموت كذلك بالسيف. مثل رجع صدى لا يتلكأ ولا يتأخر، جاءت ارتدادات فوز حزب “البديل من أجل المانيا” على يهود ألمانيا في الداخل خاصة ويهود أوروبا عموما، فالحزب بملامحه الأيديولوجية هو أقرب مايكون الى النازية، ذلك الاسم الكريه لكل يهود العالم، والذي ارتكب مأساة المحرقة مهما يكن عدد الضحايا فمن يقتل نفسا بغير حق كأنما قتل الناس جميعا. ارتج يهود أوروبا ارتجاجا غير مسبوق من حصول حزب البديل لألمانيا على نحو 98 مقعدا في البوندستاغ الألماني متفوقا بذلك على اليسار الراديكالي “دي لينكي 9%”، و على الليبراليين نحو 10% وعلى الخضر نحو 9%، وقد جاء فوز البديل من أجل المانيا ليكمل الثلاثية اليمينية التي تخشى منها اسرائيل على يهود العالم، فقد كانت البداية مع وصول ترامب لسدة الحكم في أمريكا، وتاليا انسحاب بريطانيا من البريكست ما يعظم من الشعارات القومية الشوفينية في أوروبا وأمريكا، وهي أمور عانى يهود العالم من جراء تصاعدها أشد معاناة في نصف القرن العشرين الأول على نحو خاص. بمجرد ظهور نتائج الانتخابات في ألمانيا كان “رونالد لودر” رئيس المؤتمر اليهودي العالمي ومقره نيويورك يصف المستشارة الألمانيةأانجيلا ميركل بأنها “صديق حقيقي” لاسرائيل والشعب اليهودي، منتقدا مكاسب حزب البديل من أجل ألمانيا في وقت تتزايد فيه معاداة السامية في شتى أنحاء العالم حسب وصفه. رئيس المؤتمر اليهودي العالمي يرى “البديل من أجل ألمانيا” حركة رجعية مخجلة تعيد للأذهان أسوأ ما في ماضي المانيا، ويطالب بحظره، لكنه ينسى أو يتناسى أن هذه هي الديمقراطية، وهذه هي إرادة الناخبين الألمان اليوم ومن يضمن كيف ستمضي الأمور في الغد. في انتخابات سابقة عجز البديل من أجل ألمانيا عن الحصول على مقاعد قليلة، وهاهو اليوم يحصد نسبة معتبرة …فهل يكرر التاريخ ذاته في ألمانيا؟ وهل في هذا التكرار رعب حقيقي ليهود أوربا والعالم الغربي على نحو خاص؟ أحد الأصوات الإسرائيلية التي تنبهت لعمق الأزمة البروفيسور “اريه الداد” الطبيب وعضو الكنيست السابق صاحب الآراء المتطرفة الذي كتب في صحيفة معاريف الاسرائيلية بتاريخ 26-9 الجاري تحت عنوان “كيف قرأت اسرائيل صعود اليمين في المانيا” يقول مذكرا اليهود حول العالم بأن الحزب لقومي الاشتراكي الحاضنة التي أفرزت هتلر راوح المكان في أربع حملات انتخابية جرت بين 1924 و1930، وفقط عندها بعد الأزمة الاقتصادية الكبرى 1929 أصبح الحزب الثاني في حجمه مع 18% من أصوات الناخبين وفي غضون سنتين أصبح هتلر المستشار وفاز حزبه بثلث أصوات الناخبين …..هل قصد “اريه الداد” اطلاقه بوق القرن منذرا ومحذرا من ظهور تطرف يميني في الداخل الالماني يمكن أن يؤثر على مجال حياة ربع مليون يهودي الماني لايزالوا حتى الساعة يعيشون في ذلك البلد الذي يحمل الذكرى الأشد هولا وأسفا، والتي ندينها بكل قوتنا ذكرى الهولوكست الفاعل في التاريخ اليهودي بأكثر من السبي البابلي قبل نحو ثلاثة آلاف عام؟ المخاوف اليوم لدى يهود ألمانيا من فوز حزب البديل يمكن بالفعل أن تضحى حقيقة، فكراهية المهاجرين التي ارتبطت بسهولة بأيديولوجيا هذا الحزب أصبحت شعارات لعضو الحزب ممثله الجديد في البوندستاغ “فيلهلم فونغوتبرغ ” الذي يدعو إلى وقف عبادة “الذنب الالمانية”، أي أنه يطالب الألمان بوقف جلد الذات وعدم البكاء على خطيئة الماضي المميتة التي ارتكبت في حق اليهود في ألمانيا، أما “الكسندر غولاند” فيدعو الألمان اليوم لأن يكونوا فخورين بجنود ألمانيا في أيام الحرب العالمية الثانية. الأمور تسوء عندما نتوقف عند قارعة “ديتلف شبنبرغ” أحد زعماء حزب البديل الذي يدعو الى حدود المانيا 1937 فيما يذهب “مارتن هومن”، من كوادر الحزب عينه الى أنه ليس عادلا أن تعرض المانيا كـ “شعب قتلة ” بسبب جرائم النازية في الوقت الذي لا يتحدث أحد فيه عن القتلة اليهود من الثورة الروسية. يضطرب زعماء يهود أوربا ويجزعون من فوز البديل رغم تصريحات “الكسندر غاولاند” التي أشار فيها الى أنه لايوجد ما يبعث على القلق من حزبنا أو في منظورنا السياسي من ناحية اليهود الألمان، ومضيفا لم ألتق بعد مع زعماء الجالية اليهودية في ألمانيا لكنني على أهبة الاستعداد لمقابلتهم في أي وقت. لكن التصريحات المتقدمة لا تطمئن المنظمات اليهودية البارزة في المانيا وأوروبا والولايات المتحدة، سيما بعد أن أشاد قادة يمينيون في أوروبا معروف عنهم مواقفهم اليمينية المتطرفة بفوز حزب البديل، قادة من أمثال مارين لوبن الفرنسية أو جيرت فيلدرز الهولندي…. والسؤال المطروح: هل ستعاود دول أخرى الكرة في انتخابات تالية؟ مخاوف يهود المانيا من فوز حزب البديل منطلقها الرئيس، إضافة الى كونه حزبا معاديا للهجرة وكذا المهاجرين، فإنه يحمل رؤية معادية لثقافة التعويض على الحرب العالمية الثانية وإبادة عدة ملايين يهودي وغيرهم في المحرقة. يكاد اليوم المؤتمر اليهودي الأوروبي أن يتوسل الى أحزاب الوسط في أوروبا لتتمسك بتعهداتها، ولأحزاب الوسط في المانيا بنوع خاص كي لاتدخل في تحالفات مع البديل من أجل المانيا، ذلك أن كل نجاح يمكن لأي كيان يشمله البديل سوف يعني صعود نجم تيار اليمين المتطرف، والمخاوف في المانيا جدية وليست مسألة تصريحات جوفاء فحسب، ذلك أن ألمانيا التي يقطنها ربع مليون يهودي في العقود الأخيرة معروفة بأنها مكان متسامح وآمن لإقامة اليهود، لكن البيانات الرسمية تشير إلى أن الجرائم المناهضة للسامية التي تم إبلاغ الشرطة بها ارتفعت 4% الى نحو 681 حالة في أول ثمانية أشهر من 2017، مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي. في مؤتمر الفوز أعلن “غاولاند” أن حزبه لا يريد خسارة المانيا بسبب غزو أجانب من ثقافة أخرى.. هذا هو الأمر ببساطة.. ما يدفعنا للتساؤل: أليست هذه ارهاصات نازية جديدة حتى وإن جاءت في أثواب عصرانية؟. ليست قضيتنا في هذه السطور هي ألمانيا، وإنما كانت الأخيرة مدخلا لطرح علامة استفهام على حكومة نتانياهو.. أليس الأجدر العيش في سلام داخل حدود متفق عليها لدولة اسرائيل، عوضا عن العيش تحت سيف الخوف الذي بدأ يسلط على رقاب اليهود أوربيا من جديد والخوف الذي يلفهم بقوة؟ أليس الافضل بل الأنفع والأرفع ليهود العالم العيش في سلام مع دول الجوار شرق أوسطيا اذا تم التوصل لصيغة سلام تعيد الحقوق الى أصحابها بدلا من الغي السادر من جانب اسرائيل؟ دعونا نعود الى بدايات القرن العشرين والفترة من الثلاثينات حتى أوائل الستينات، فقد عاش اليهود في العالم العربي من شرقه الى غربه، كمواطنين كاملي حقوق المواطنة، ولم يعرف العرب يوما حديث العداء للسامية، ولا تزال معابد اليهود قائمة في الكثير من العواصم والمدن العربية الكبرى، ولم تكن هجرة يهود العالم العربي الا من جراء قيام دولة اسرائيل كدولة احتلال للأراضي العربية، والترويج لأكذوبة شهيرة “شعب بلا أرض لأرض بلا شعب”، ومحاولاتها الدؤوبة لتحويل فريق من اليهود العرب الى جواسيس كما في حادثة “لافون” الشهيرة في القاهرة. امتلك يهود العالم العربي ناصية التجارة بنوع خاص، وأبدعوا فيها وفتحت من أمامهم كافة الأبواب، ولا تزال آثارهم في بلدان بعينها تحدث بما كان من شأنهم من قبل، عطفا على أدوارهم في السينما والمسرح والفن والغناء، هذا في الوقت الذي كان فيه هتلر يفتح أبواب الأفران لهم، وتطاردهم سلطات دول أوربية بعينها … ذاكرة يهود إسرائيل محدودة ولا تتعلم من دروس التاريخ.. نعم ربما لا يمكن اليوم التنبؤ بأن ما حصل في المحرقة يمكن أن يحصل ثانية، لكن “آريه الداد” عينه يحدثنا الآن عن اليهودي الألماني الذي يدلف الى القاطرة النظيفة من مدينة ألمانية إلى أخرى، ويغرق وجهه المتنور في هاتفه المحمول، ويتجاهل أن واحدا من كل أربعة من جيرانه في القاطرة يكرهونه، يكرهون شعبه ويكرهون بلاده .. هل يتحتم على عقلاء اسرائيل في الداخل السعي في طريق السلام مع الفلسطينيين، وتاليا ولو بخطوات متثاقلة إلى أن تثبت المصداقية يجري التطبيع مع بقية دول العالم العربي وربما الإسلامي من جديد؟ ليس لدى العرب عقدة نقص أو دونية أو أزمة عرقية تجاه اليهود كأصحاب شريعة أو كتاب، ويمكن أن تنفتح أمامهم آفاق إنسانية، جغرافية، اقتصادية للتعاون الخلاق، دون خوف من دياسبورا جديدة، او هولوكوست لعين آخر محتمل ولو بنوع مغاير لنسق هتلر. كثيرا ما يصف أنبياء بني اسرائيل شعبهم بأنهم:”لهم آذان ولا يسمعون وعيون ولا يبصرون”… فانظر ماذا ترى؟
مشاركة :