لا تحدث الانفجارات السياسية والاجتماعية من فراغ، كما أنها تنبع كحالة ثورية في المجتمع من تراكم عدة عوامل تكون الظروف المعيشية الصعبة هي عود الثقاب، الذي يشعل الحريق العام في المجتمع، فتجد جموع الشعب وخاصة الجماعات الشابة في حالة انتفاض عفوي لم يتم الاتفاق عليه بين أطراف حزبية أو فئوية، حيث ضغوطات الحياة اليومية وحدها وامتهان الانسان الحياتي الى حد العطش والجوع والبطالة تدفع تلك الجموع نحو التظاهرات والاندفاع للشارع العام، ثم تتسع عمقا، بحيث تجتذب تلك الانتفاضة الطاقات الغاضبة والمتضررة بشكل حاد بطبيعة تلك الازمات. لم تكن انتفاضة البصرة مجرد أزمة غياب الامن الاجتماعي لحياة الناس، وليس لغياب الخدمات اللائقة تماما من المحافظة، وليس لمجرد أن الفساد المستشري في بنية المؤسسات الرسمية وغير الرسمية صارت مستفحلة، كما أن البطالة وضنك العيش لم تعد وحدها خنجر السلطة والفساد الرابض على كيان مدينة غنية بالنفط في العالم، في وقت لا يحظى سكانها برغيف نظيف ممزوج بالكرامة وماء نظيف يجنبهم الموت عطشاً، في زمن لا يمكن تخيل بلد متعدد بالانهر يشحذ سكانه قطرات الماء من أجل معيشتهم. كان الماء ذروة الغضب وليس الغضب نفسه، فالبصرة ظلت لمدة شهور طويلة تكتم أنفاسها وغيظها من حادثة تلوث المياه والعبث الايراني وموت اكثر من 22 ألف إنسان في البصرة من تسمم المياه. لم يكن ذاك الحدث قدرياً ولا عابراً ولا غضب آلهة السماء الدلمونية، وإنما فعلا مقصودا تقف وراءه الايدي الاثيمة، التي لم تعجبها سماع هتافات جديدة بعد 15 سنة من السيطرة الايرانية في البصرة، ما سمعته حكومة قم اثناء الحملات الانتخابية وبعد انتصار قائمة الصدر وتراجع حصة المالكي ومن يوالون ايران: «ايران بره بره» تلك الهتافات وغيرها كان بمثابة الطعنة القاتلة لنظام الملالي في البصرة، بل ولم تكن كل المليشيات الموالية لايران سعيدة بالنتائج الانتخابية في صيف 2018. ذلك المؤشر الجديد في خطاب الشارع العراقي والبصراوي تحديداً، افزع حكومة ايران، التي تعتبر البصرة والعراق بوابتها الاساسية للمرور للعالم العربي خاصة لبنان وسوريا، وفقدان ذلك الجيواسترايجي العراقي معناه، أن كل ما راهنت عليه ايران خلال تلك السنوات من بعد سقوط صدام، يكاد يكون بنيان هش يقف على كثبان من الرمل، وان الحلم الايديولوجي المذهبي يترنح مع أصوات المتظاهرين في البصرة، والذي أمتد لشهور عديدة وتكثف بشكل خاص منذ 14 يونيو، ولكنه في الاسبوع الاول من سبتمبر كان انفجاراً مدوياً لابد وإن خيوطه كامنة بين بغداد كحكومة معلقة وطهران كحكومة قلقة أن تفقد مكانتها الاساسية في تشكيل الحكومة القادمة. وكما نقول إن الهتافات والازمة في البصرة ولكن مفتاحها الحقيقي في بغداد، فهناك في العلن والسر أصوات تعكس صوت قم، وترى أن حكومة حيدر العبادي لا يمكن أن تكون الحكومة القادمة، فكل توجهات وآراء العبادي – رغم سلبياته – لا تعجب ولا تتناسب مع طهران والمليشيات التابعة الى ايران، فقد أعلن العبادي اكثر من مرة ان للعراق سيادته وهويته العربية، واقترابه من السعودية رسالة لا تثلج قلب طهران وساستها، وإبعاد العراق من نفوذ قم وهيمنتها، لا يمكن ان تدعه يمر بسهولة دون الانتقام والتخريب والعبث، فقد شيدت جمهورية الملالي في ربوع العراق خلال هذه الفترة بيوت من العناكب والثعابين، لكي تلدغ لدغة الموت عند اللحظة المناسبة، فكانت أول حالة انتقام هي تحريك شارع البصرة الى آخر مداه عن طريق خنقه بالتسميم والعطش، فكنا امام سيناريوهات منفلتة مشبوهة ومشاهد حريق ونهب وتخريب تجاوز مداه فعل المتظاهرين العزل خلال الشهرين الماضيين، حيث كانوا يخرجون بسلمية وعفوية وصدور عارية تندد بصوت عال شعارات واضحة في هويتها الوطنية موجهة اصابع الاتهام لازلام ايران الفاسديين ولرجالات الدين التابعين لهيمنة قم. كان على الحرس الثوري الايراني والمليشيات العراقية الموالية لايران أن تحرق البصرة برمتها، لكي تجد عذراً عاجلاً بخلق ازمة نفطية في البصرة وازمة سياسية في بغداد، بحيث تتشكل حكومة من كل الاطراف بما فيها ازلام ايران في الحكومة القادمة، فشمشون في قم مستعد على الدوام هدم المعبد على رؤوس الجميع دون رحمة وهو يصرخ: «عليّ وعلى أعدائي يا رب». هكذا لغة الحقد والانتقام تولد حينما يخسر المهزوم معركته.
مشاركة :