كتب دينس روس وديف هاردن وديفيد ماكوفسكي مقالا في إحدى الصحف الأمريكية، بعنوان “صيغة جديدة للمساعدات الأمريكية إلى الفلسطينيين”.. يحتوي المقال على اقتراح مقدم لإدارة ترامب عن كيفية تدوير المساعدات الأمريكية التي تم الغاؤها عن السلطة الفلسطينية، بحيث يوجه جزء منها لإنشاء مشاريع حيوية في قطاع غزة و الضفة الغربية، من شأن هذه المشاريع أن تجعل الحياة أسهل للسكان، خاصة في قطاع غزة، وبمعنى آخر أن نتنياهو و مؤسساته الأمنية باتوا يدركون أنه إذا لم يكن لدى الفلسطينيين ما يخسرونه، ستكون احتمالات انفجار الوضع مرتفعة.. الحديث لكتاب المقال . استعرض الباحثون الثلاثة خطر وقف تمويل “الأونروا” في القطاع، الأمر الذي يجعل الحياة صعبة ويزيد الوضع السيء سوءًا، خاصة وأن الأونروا تقدم مساعدات في التعليم و الصحة والاحتياجات الإنسانية، وهناك 13 ألف موظف، وأمام هذا الوضع يقترح الباحثون على الكونغرس الأمريكي ثلاث توصيات لإعادة جدولة المساعدات المالية والبالغة 200 مليون دولار أمريكي، بطريقة توجد فيها بيئة اقتصادية وسياسية و أمنية أكثر استقرارا في غزة والضفة الغربية. أولا: إزالة موضوع المياه عن طاولة المفاوضات، على صعيد قطاع غزة يمكن تمويل مشروع حقل شمسي صغير يولد الطاقة اللازمة لتشغيل محطة تكرير الصرف الصحي، وتدعيم الوحدات الشمسية لتحلية المياه الموجودة داخل المجتمعات المحلية، والمدعومة من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وتوسيع محطة الوقود الشمسي التابعة لليونيسف في منطقة خان يونس، إلى جانب صيانة البنية التحتية لشبكات المياه والصرف الصحي، و إنشاء طاقة متجددة صغيرة في كافة المحليات. ثانيا: يجب استخدام المساعدات الأمريكية لتوسيع التجارة بين الفلسطينيين والاسرائيليين بشكل كبير، يحتذى بما يطلق عليه “نموذج جنين” الناجح في التجارة، من خلال فتح المعابر التجارية وللأفراد، وفيما يخص قطاع غزة يقترح الباحثون الثلاثة تنمية قطاع النسيج والفواكه والخضار الطازجة، وممكن استئناف العلاقات بين الطرفين في غضون أشهر عند فتح معبر كرم أبو سالم بشكل مستدام، وفتح معابر تجارية إضافية مثل بيت حانون. ثالثا: التعليم.. يقول كاتبو المقال: لطالما انتقد الإسرائيليون والأمريكيون السلطة الفلسطينية، لأنها لا تعلٌم شعبها من أجل السلام، فلماذا لا نحث الجامعات الأمريكية والمنظمات غير الحكومية على الانخراط في رفع مستوى النظام التعليمي الفلسطيني، وتهيئة الفلسطينيين لاقتصاد القرن الواحد والعشرين، وأكثر من ذلك عندما قالوا: لماذا لا يتاح للفلسطينيين الدراسة في الجامعات الإسرائيلية. وخلص كاتبو المقال الى أن الإدارة الأمريكية محقة في تشكيكها بالسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، وفي رفضها الحازم لحكم حماس في غزة، ولكن هذا لا يعني التخلي عن الفلسطينيين، ثمة عدد كاف من الأطراف الفاعلة الطيبة عند كلا جانبي الخط الأخضر . بدون أدنى شك.. فإن كاتبي المقال الثلاثة لهم باع طويل في قضايا الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وخاصة دينس روس الذي شغل منصب مساعد خاص للرئيس أوباما، وكمنسق خاص لشؤون الشرق الأوسط في عهد الرئيس كلنتون، وديفيد هاردن المدير الإداري لمجموعة جورج تاون الاستراتيجية عمل في إسرائيل كدبلوماسي وفي الضفة الغربية و قطاع غزة، ديفيد ماكوفسكي مدير مشروع عملية السلام في الشرق الأوسط . فهم إذن لم يقدموا هذه الاقتراحات للكونغرس من أجل الاستعراض، بل استندوا إلى رؤية الرئيس ترامب بشأن حل الصراع، بحيث يكون الاقتصاد في خدمة صفقة القرن، ولكن هذه المرة عبر مشاريع تتجاوز السلطتين في رام الله وغزة إلى تمويل موجه عبر وسطاء مثل الأمم المتحدة كما يشاع في الفترة الأخيرة، فإدارة الرئيس ترامب باتت ترى في قيادة السلطة الفلسطينية طرفا غير جاهز للانخراط في التسوية، وترى في حركة حماس طرفا لا يمكن التعامل معه، ومن هنا كانت توصيات روس وصحبة للكونغرس من خلال التركيز على الاقتصاد لتهيئة المناخات المناسبة، و بمعنى آخر تطويع الفلسطينيين للقبول بما يطرح عليهم. لا أريد أن أناقش هذه التوصيات من زاوية اقتصادية، بل من زاوية سياسية، يعلم الجميع أن قطاع غزة بلغت أوضاعه المعيشية حدًا صعبًا في مختلف المجالات كما ورد في تقرير البنك الدولي والأمم المتحدة، ومن خلال أرقام هيئة الإحصاء الفلسطيني كلها تشير إلى عمق الأزمة، ممكن أن نقول إن الانقسام الفلسطيني ساهم مساهمة كبيرة في تعميق هذه الأزمة، ولكن يبقى الاحتلال الإسرائيلي هو السبب المباشر و الرئيسي لمنع نشوء اقتصاد فلسطيني مستقل قادر على إحداث عملية تنمية مستدامه، الاحتلال الذي أراد، وعن قصد، أن يمنع الفلسطينيين من إنشاء اقتصاد مستقل نام “الاحتلال هو أصل المصائب”، خلا مقال دنس روس وصحبه من تأثيرات وسرقة الاحتلال للمياه والاقتصاد الفلسطيني، أو من العقبات والإجراءات الاسرائيلية المعيقة الموجهة ضد الاقتصاد الفلسطيني. التركيز على قطاع غزة من خلال حل مشاكله من زاوية ترتيب وضع قطاع غزة، أي التعامل معه بسياق منفصل عن السلطة الفلسطينية، ولتمرير ذلك تم استحضار دور قطر التي تربطها بحركة حماس روابط أيدولوجية وسياسية جيدة، إذا كانت اسرائيل تسعى لفصل قطاع غزة عن الضفة الغربية، فعندها إدارة ترامب تستطيع أن تتسلل من بوابة القطاع لفرض واقع جديد يساعدها على تنفيذ بند من بنود صفقة القرن، والمدخل لذلك هو دفع حماس للقبول بهدنة طويلة مع إسرائيل، هدنة يعقبها تحسين الوضع المعيشي للسكان، ولكن هذه الرؤية في جوهرها تتعامل مع القطاع من باب الإغاثة وليس من باب التنمية الحقيقية، حيث البطالة بلغت أكثر من 49 بالمئة، هناك أيضا الكتلة السكانية سريعة النمو في رقعة غير صالحة للعيش حسب التقارير الدولية، هذه المشاريع التي أوردها روس وصحبه لا تعالج جوهر المشكلة، وهو الاحتلال وما يعني، وهو استعمار كولونيالي يشكل أبشع أنواع الاحتلال، وهو أيضا الذي شجع الانقسام الفلسطيني إن لم يكن صاحبه، الاقتصاد لا يكفي وحده فمشكلة قطاع غزة الرئيسة سياسية بامتياز مرتبطة بالاحتلال وممارساته وحصاره، وسياسي مرتبطة أيضا بإنهاء الانقسام وتحقيق وحدة المؤسسات الفلسطينية وربط القطاع بموازنة السلطة الفلسطينية بشكل كامل وليس جزئي، وفي التعليم موضوعة اصلاحه على طريقة روس يشكل إهانة بمجرد الحديث عن ذلك، يطلب السيد روس إخراج التعليم من حالته الوطنية إلى حاله مطواعة للتسوية، أي تعليم يؤسس للتطبيع التعليمي بدون قيم وطنية فلسطينية، يريد انشاء جيل مستسلم ينسى الاحتلال، بدل هذا الكلام وجب على روس الالتفاف لتعليم حلفائه الإسرائيليين التلموديين حيث التطرف و الارهاب، منهاجا مشبعا بالكراهية و العنصرية، لم ير روس وصحبه القوانين العنصرية التي أقرها الكنيست الإسرائيلي لحماية المستوطنين، ولا قانون القومية العنصري الذي يشكل تهديدا وجوديا للفلسطينيين و للعرب، عن أي تعليم يتحدث واسرائيل دولة مارقة خارجة عن القانون الدولي الانساني، دولة تؤسس للأبارتهايد وللإرهاب. ضعف الحالة الفلسطينية وتراجع المؤسسات الفلسطينية الرسمية، والانقسام السياسي والإداري بين الضفة وقطاع غزة جعل أشخاصا كالسيد روس و أصدقائه يتطاولون على المؤسسات الوطنية الفلسطينية الرسمية من خلال تجاهلها واستبعادها عن أي دور سياسي أو اقتصادي، المس بوحدة الفلسطينيين السياسية يبقى خطا أحمر، لأن الفلسطينيين وحتى بوجود الانقسام مازالوا جماعة سياسية واحدة تتطلع للحرية والاستقلال، ضعف الأداء الفلسطيني و انقسامهم سبب مباشر ومقدمة لتجاوزهم السياسي. *كاتب مقيم في قطاع غزة
مشاركة :