نخبة من أولى القصص التي أبدعها الكاتب الإيطالي ايتالو كالفينو "إحدي عشرة قصة"، ترجمها الشاعر والمترجم محمد عيد إبراهيم تحت عنوان "غراميات بائسة" لتصدر أخيرا عن دار الدراويش ببلغاريا وهي دار حديثة تُعنى بنشر الأدب العربي والمترجم. وتحاول أن تمثل دوراً ثقافياً في العالم العربي، خاصة وأنها قامت مؤخراً بإصدار مجلة ثقافية رفيعة هي "مجلة الدراويش" في محاولة لتغطية النقص الحادث في مجتمعاتنا هذه الأيام. وقد أطلق لقب "مغامرة" على كل قصة من القصص التي ضمها الكتاب، مثل: مغامرة شاعر، مغامرة زوجة، مغامرة جندي، مغامرة قارئ.. إلخ، وهي تصف حالات إنسانية لطائفة من الناس العاديين في لحظة مأزق يتعرضون لها. بالإضافة إلى ثلاث قصص أخرى عن الحواس تعد هي آخر ما كتب كالفينو قبل وفاته، واحدة عن حاسة الأذن وواحدة عن حاسة الأنف وواحدة عن حاسة اللسان، وهي فكرة طريفة حيث لا يكتب عن الحواس إلا قلة قليلة من المبدعين في العالم. والجميل في هذه القصص عموماً هو تلك الأناقة الشعرية العالية ضمن مواقف الشخصيات التي تعيشها في لحظات خاصة، فلا تحس إلا بالجمال وسط هذه النصوص، والتي نقلها الشاعر والمترجم محمد عيد إبراهيم بأناقة لغوية مماثلة إلى اللغة العربية، كما عودنا دائماً في ترجماته. ومن جو النصوص نقتطف هذا المقطع من قصته "مغامرة شاعر": "انسلّت من جنب القارب، انسابت، سبحت أسفل البحيرة، وبدا جسمها أبيض أحياناً، كأن الضوء جرّده من أيّ لون يخصّه، وأزرق أحيانا كصفحة الماء. كفّ آسنلي عن تجذيفه لاهث الأنفاس. في حبه داليا كان دائماً هكذا، كمرآة هذا الكهف؛ عالم ما وراء الكلمات. لهذا لم يكتب، في قصائده جميعاً، بيتاً عن الحبّ. قالت داليا "اقترب". وهي تسبح، خلعت فضلة الثوب التي تغطّي صدرها، ألقت بها للقارب. "دقيقة واحدة"، ثم حلّت الفضلة الأخرى التي تقيّد ردفيها فسلّمتها آسنلي. قصص ايتالو كالفينو حركات رقص معلّقة بالماء هي الآن عارية. بارز لحم صدرها وردفيها أشدّ بياضاً، تشعّ كلّها بلمعة أزرق واهن، كقنديل بحر. تسبح على جانب واحد، بحركة متراخية، خارج الماء رأسها (رأس تمثال، بتعبير صارم متهكّم)، يبدو منها أحياناً حنية كتف أو خطّ ذراع ناعمة ممدودة؛ بينما تغطّي ثم تكشف الذراع الأخرى بضربات هدهدة، فتبدو قمّتا الصدر عاليتين مشدودتين. تخبط قدماها العاريتان الماء لتقوية البطن الملساء، تميزها سرّة كأثر واهن من الرمل، أو نجمة حيوان رخويّ. تنعكس أشعّة الشمس تحت الماء، فتمسّها رفيقاً، تغلّفها بنوع من لباس، أو تجرّدها كلّها من جديد. تحولت سباحتها إلى حركات رقص معلّقة بالماء، تبتسم نحوه، ثم تمدّ ذراعيها في سلاسة تكوّر الكتفين والرسغين، أو تقوم بدفع الركبة التي تجلب إلى السطح قدماً محنية كسمكة صغيرة. آسنلي في القارب، كلّه عيون. أدرك أن ما منحته الحياة له الآن شيء، لا شخصاً ينظر إليه مفتوح العينين، كأنه في قلب شمس باهر. وفي قلب هذه الشمس صمت. لا يمكن ترجمة شيء في هذه الآونة إلى شيء آخر، ولا حتى في خياله. تسبح الآن داليا على ظهرها، إزاء الشمس عند فم الكهف، فتنشأ حركة طفيفة من ذراعيها للخلاء، تحتها يبدل الماء ظلّه الأزرق إلى لون أشدّ شحوباً فيلمع أكثر. "حذار، البسي شيئاً، هنالك زورق يقترب". كما نقتطف هذا المقطع من قصته عن "الأنف": "أنتصب واقفاً، وأنفي في الريح، أعي إشارات دقيقة أقلّ لكن بمعنى أوسع، إشارات تستدعي الشكّ، الوعيد، الفزع، إشارات تأبى تصديقها وأنفك مرغم في الأرض فتصدّ عنها، ريثما أنصرف عن الرائحة المنبعثة من صخور القاع حيث تنحّي جماعتنا الحيوانات التي نزعنا أحشاءها، هناك أوصال عفنة وعظام، حولها تطوف النسور وهي تحوّم. لقد ضاع العطر الذي تبعته هناك، واعتماداً على وجهة الريح، ينهض نتن الجيف المنهوشة، أنفاس بنات آوى التي تنهشها دافئة بدم ناشف على الصخر في الشمس. وحين أعود صاعداً كي أتصيّد للآخرين، تحسّ دماغي بصفاء قليل، قد أعثر عليها ثانية فأعرف من هي، لكني لا أجد أحداً هناك، ويعلم الله متى مضوا. وأنا في إقامتي، كانت الغرف فارغة إلا من علب البيرة وطبولي، وصار سناج الموقد لا يُحتمل، أسعى حول الغرف فأجد باب إحداها مغلقاً، تلك الغرفة التي تشمّ فيها الموقد وهو يلهث من ثقوب الباب، فيشتدّ الغثيان، أبدأ صفق كتفي بالباب حتى ينفتح، المكان داخله معبأ من الأرض إلى السقف بغاز كثيف مسود مقزز، وعلى الأرض الشيء الذي رأيت قبل مغص نوبة القيء، شكل ممدد أبيض طويل، وجه يخفيه شعر، وحين أجرّها للخروج من ساقيها المتخشّبتين أشمّ عطرها بين الروائح الخانقة، عطرها الذي أحاول تتبعه وتمييزه بسيارة الإسعاف، في حجرة الطوارئ، بين روائح المطهر والوحل السائل من بلاط الرخام بثلاّجة الجثث، والهواء منتقع به، خاصة والجوّ بالخارج هناك رطبٌ".
مشاركة :