القاهرة: «الخليج» أصدرت الهيئة المصرية العامة للكتاب، الجزء الثالث من ثلاثية الكاتب الإيطالي «إيتالو كالفينو»، وعنوانها «أسلافنا»، ترجمة أماني فوزي حبشي، كان الجزء الأول بعنوان «الفسكونت المشطور»، والثاني «البارون ساكن الأشجار»، أما الثالث فعنوانه «فارس بلا وجود»، ويواصل خلاله كالفينو تقديم الجانب الأخلاقي والتربوي نفسه، لكنه يكتسب طابعاً سلبياً، بمعنى أن بطلي الروايتين السابقتين كان أحدهما مشطوراً، وثانيهما يحيا فوق شجرة، أما بطل الجزء الثالث والأخير من الثلاثية، فهو غير موجود أصلاً، بل هو عبارة عن هيئة فارس لا وجود له. يجد هذا الفارس ذاته في هيئته، كما يجد الإنسان المعاصر ذاته في وظيفته وعمله، فلا يخرج من إطارها، ويعيش بعداً واحداً من أبعاد الحياة، لكن في مقابل الفارس غير الموجود أحادي الأبعاد، نجد كالفينو يقدم في روايته شخصية أخرى هي شخصية «جوردولو»، وهي شخصية لها وجودها البيولوجي والفسيولوجي، لكن ما ينقصها هو الوعي بوجودها وتحقيق ذاتها. في هذا الجزء من الرواية يعرض كالفينو ذلك البحث المضني عن الذات، البحث عن الهوية الضائعة، فالأحداث المتشابكة تجمع في طياتها حدثاً وفكرة واحدة، فالأبطال جميعهم يبحثون عن وجود ما، فذلك الفارس الذي لا يجد نفسه إلا في اللقب الذي حمله، حيث لا وجود مادي له، والذي بمجرد إثارة الشك في عدم مصداقية إنجازه، يختفي من الوجود ويتلاشى، وكان وعي الإنسان بعمل ما أو إنجاز ما في الحياة هو سر البقاء، هو سر وجوده، فهناك «فارس بلا وجود»، وشخص موجود (جوردولو)، إلا أن وجوده خالٍ من الوعي، محروم الإدراك، فهو لا يعرف شيئاً عن وجوده، فيتماثل بالتالي مع كل المخلوقات. يقدم كالفينو في هذه الرواية شخصية المترجم في الحروب، ذلك الذي نظراً لأنه يعرف كيف تقال الأشياء بلغتين مختلفتين يتعرض للمخاطر، وللقتل أحياناً كثيرة، وهي صورة تمثل اليوم صورة المترجمين في مناطق الصراع والحروب الحالية، صورة أصبح لها أهميتها في الوقت الحالي، حتى أفرد لها دارسو الترجمة والأدباء صفحات، بل نالت اهتماماً أيضا من أهل هوليوود. يقول كالفينو عن المترجم في ميدان المعركة: «لذلك كان غاية في الأهمية أن يفهم كل طرف ما يقوله الطرف الآخر، وهو الأمر الذي لم يكن سهلاً بين الأتراك والمسيحيين، فبوجود لغات مختلفة بين محاربي الأتراك والمسيحيين، وإذا لحق بك سباب لا يمكنك فهم معناه، ماذا يمكنك أن تفعل؟ كان عليك إذن الاحتفاظ به، وربما تبقى ملطخاً به طوال حياتك، ولذلك ففي تلك المرحلة من القتال كان يتدخل المترجمون، كانت فرقة سريعة ترتدي دروعاً خفيفة وتمتطي خيولاً خاصة صغيرة الحجم، وكانت تدور في المعركة حول المحاربين، كانوا يلتقطون على الفور السباب، ويترجمونه إلى لغة المستمع». بالنسبة إلى أولئك المترجمين كان هناك اتفاق ضمني بين الطرفين على عدم المساس بهم، بالإضافة إلى أنهم كانوا يسيرون بسرعة شديدة، وفي تلك الفوضى لم يكن من السهل قتل محارب ثقيل يمتطي جواداً منتفخاً، يسير بصعوبة لما وضعوه فوقه من دروع كثيرة، فلنتخيل إذن وضع هؤلاء الذين يقفزون بحركاتهم السريعة، ولكن كما هو معروف فالحرب هي الحرب، وكل فترة تترك ضحاياها، وكان لابد أن يكون لهم نصيبهم في المخاطرة. يقول كالفينو عن روايته: «انطلاقاً من الشخص البدائي الذي يمكن وصفه بأنه لايزال غير موجود، لأنه لم يختلف عن المادة العضوية، وذلك لأنه لايزال متحداً مع الكون، وصلنا رويداً رويداً إلى الشخص الاصطناعي، الذي نظراً لكونه متحداً مع النتائج والمواقف، فهو أيضاً غير موجود، لأنه لا يتناقض مع أي شيء ولا علاقة له بأي شيء، مما يحيط به من طبيعة أو تاريخ، علاقة تبدأ بالصراع، ومن خلاله تصل للتناغم، فهو يؤدي دوره بطريقة مجردة، هذه العقدة من التأملات بدأت تتجسد رويداً رويداً أمامي، بصورة كانت تشغل ذهني منذ فترة، بدلة محارب تسير ولا شيء بداخلها، حاولت عام 1959 أن أكتب قصة حول ذلك، فجاءت رواية فارس بلا وجود».
مشاركة :