هل التعليم مجرد مهنة قد تكون أهم قليلاً من غيرها، أم رسالة مقدسة تسقط بفشل تبليغها المجتمعات؟ في بدايات التعليم المنهجي في السعودية كان المدرسون القدامى يفهمون دورهم كرسالة مقدسة، وللأسف فتر الحماس تدريجيًا حتى تحول التعليم في الأربعين السنة الأخيرة إلى مجرد مهنة روتينية مقابل راتب شهري. المجتمعات التي سبقتنا إلى اكتشاف أسرار الأرض والكواكب والمياه والرمال بما في ذلك صحارينا العربية سبقتنا واستعمرتنا لأنها اهتمت قبل أربعة قرون بتعليم تلاميذها وطلبتها استعمال العقل للتفكير والتساؤل والاستنتاج وليس لتجويد الإندماج في النمطية المرغوبة في المجتمعات المتخلفة. في ذلك التطبيق كان يكمن الفهم للتعليم كرسالة وطنية مقدسة ومسألة حياة أو موت. السؤال الذي يجب أن نعرف الإجابة عليه هو: كيف وصلت تلك المجتمعات إلى التجديد مع بقاء مجتمعاتها متماسكة لم تدمرها الفوضى التي يحذر منها النمطيون التقليديون في مجتمعات مغلوبة حضاريًا وحقوقيًا وتقنيًا وعسكريًا. العثور على الجواب يجب أن يتزامن مع قرار وزارة التعليم الجريء في تدريس الفكر الفلسفي الناقد في المراحل الدراسية الثانوية والجامعية السعودية. ما يجب أن نعرفه سوف يحيلنا إلى مراجعة تاريخ تلك المجتمعات التي دمغت وختمت العالم كله بإنجازاتها العلمية والمعيشية والترفيهية، لنتعرف على العقبات التي تخطتها في الطريق نحو صنع منتجات العلوم بدلاً من شراء واستيراد هذه المنتجات مقايضة بثروات الأرض. تاريخيًا كان أول من عارض النهضة الفكرية النقدية في التعليم التي بدأت في أوروبا وتحديدًا في إنجلترا وفرنسا وألمانيا كانت الكنيسة الكاثوليكية. خلال القرنين الأولين من بدايات التحرر الفكري طورد مئات الفلاسفة والمجددين وحوكموا وسجنوا وقتل بعضهم. لا حاجة لذكر التفاصيل ويكفي التذكير بتكفير فولتير وجاليليو وروسو وبرونو وداروين وغيرهم المئات. صمود أولئك الرواد وحماية الحكومات والطبقات المستنيرة لهم فتح الأبواب لاحقًا للثورة الصناعية وللاكتشافات العلمية فتنامت قدرات تلك المجتمعات حتى استطاعت استعمار الأمريكتين وأستراليا ونيوزلاندا وأفرقيا والدول الإسلامية كافة دون مقاومة تذكر سوى الصراخ والدعاء. بالطبع واجهت تلك المجتمعات في بداية نهضتها معضلة الطالب المستنير المنفتح فكريًا داخل المجتمع الكاثوليكي المنغلق ولكنها استطاعت التغلب عليها بنقل مهارات التفكير المستقل إلى خارج نطاق المؤسسات التعليمية، في الميادين والأسواق والتجمعات الحوارية. الذي حدث هو أن تلك المجتمعات اشتغلت على جبهتين تحميهما القوانين التحديثية، جبهة تحرير عقل التلميذ والطالب في المدرسة والمعهد من النمطية، وجبهة الحوار الاجتماعي المفتوح بنقل الحرية الفكرية إلى الفضاء العام. المعنى في ذلك يتلخص في كون تلك المجتمعات فهمت التعليم كرسالة مقدسة وليس كمهنة مدنية تنتج النسخ القديمة نفسها من البشر والمفاهيم.
مشاركة :