أجلس بمفردي على مكتبي في محل صغير، استمر في محاولاتي لأفرد ظهري رغم تقوسه لكثرة الجلوس عليه، يداي تشققت وملأتها الجروح من كثرة استخدامي لآلات حادة طيلة اليوم منذ سنوات معدودة.حين أنتهي من عملي وأخطف القليل من الوقت لأستريح حتى يأتيني عمل آخر، فأضع يداي خلف رأسي لأسندها عليهما، رأسي التي لم تعد تغطيها خصلات شعري السوداء، فقط تحاول أن تحافظ على مكانها رغم احتضان البيضاء لها، وأنظر بعيناي لتلك الساعات المعلقة على حوائط هذه الغرفة الصغيرة التي أسميها محلي..أنظر لهم بالتناوب وكل نظرة لكل واحدة منهم تأخذ ثانية، نعم أصبحت أعد الثواني، والدقائق والأيام والسنوات، كأننا كل عام أشخاص جدد...لا يحتفظوا بشيء عن أنفسهم التي رحلت، لم تتغير، بل تبخرت وحلت محلها أخريات.لم نعد كما كنا من عام، ومن عام لم نكن كما كنا من عامين مضوا، ورغم أننا لدينا نسبة يقين بأن السنة الآتية لن تكون كالتي نعيشها الآن لكننا أيضًا نخشى أن تكون كالحالية! مع ذلك كله نتمنى أن يكون ما هو قادم أفضل.. على الأقل ألّا يحمل السوء الذي شعرنا به في هذه السنة، فالتغيير لا يتوقف، كلما فهمت أمرًا تجد تغييرًا جديدًا تبات تائهًا تحاول فهمه هو الآخر. ونبقى هكذا حتى نصل لمنتصف العمر، لنجد الحيرة بين الشعور بأننا فرطنا في شباب نريد أن نعيده، أو أننا نضجنا بما يكفي لنوثق ما تعلمناه، نكتشف حُسن أفعالنا أو ربما سوءها، وهناك من لا يكتشف، نقف مشتتين بين الندم والتعلم، أو ألّا نشعر بهما، فكنا في كل سنة نكبرها نظن أنها تلك هي السنة التي نُصفع بها الصفعة القوية لنتعلم منها ومن ثم تهدأ أفكارنا، لكن مع كل واحدة تمر نكتشف أن هناك جديد، هناك الكثير بعيد لم نكتشفه بعد، وهناك قريب تجاهلناه وربما نستمر في تجاهله.. أو ماضي وضعنا في حكايات لم نتعلم منها سوى أن مع الوقت الأمر يزداد صعوبة، يظن البعض أن التعلم كله رُسخ في الألم فيتركون أنفسهم له كأننا كُتب علينا الألم طيلة حياتنا، لكن كان الحل والاحتياط والتنبؤ واضحين لكن روح المغامرة لا تدعنا، رغم تخلّي البعض عنها... الشيء الوحيد الذي لا يمكن الإختلاف عليه بين كل هذا هو أن الحياة تعلمنا الكثير بإرادتنا أو إكراهًا.علمتني الحياة أن ليست كل الطرق التي نختارها يجب أن نسير فيها، وأن النهايات لن تكون مرضية دائمًا.. كنت أنشغل في لا شيء لكني أقنع نفسي أنني أفعل شيئا حتى لا أكرهني أكثر..مازلت أسير في الشارع لكن أًصبح نادر جدًا أن يشبه على وجهي أحد... خسرت أغلب رفاقي بصرف النظر عن قلة من بينهم، حتى العبادات أقصر فيها، لم أكن أقيم في بيتي ساعات معدودة وأترك أختي بمفردها وكانت تغضب مني،.. تخبرني أنها تحتاجني بجوارها لكني أنشغل في ما سعيت له سنوات؛ فكنت الأخ الأصغر والوحيد لها، تحملت مسئوليتي بمفردها حتى رشدت، كانت لي أبًا وأمًا وأختًا وكانت تنجح في مرات كثيرة لكني استعبت هذا مؤخرًا لم أكن أعرف أن حصولها على طعام وشراب لنا بكل هذه المشقة، كبرت وأصبحت ترفض كل ما أريده ظنًا منها أنه طيش، تمرض وأتركها أيامًا دون سؤال أو اكتراث مني، تعتزم الفراش وأنا لا أهتم، كادت تشحذ مني أن أكون معها لكني لم ألبي، كل هذا فدا الشهرة، وحين تعلمت أنني أبدل من مكانات أولوياتي كنت قد فقدت كل شيء ولن أستطيع أن أعيده.. الغريب أنني اكتشفت كل هذا في وقت ظن الكثير أنه أفضل ما قد أصل إليه، حين كنت أقف أمام مئات الأشخاص، أرتدي بذلة أنيقة مناسبة لشخص مشهور مثلي، مشهور لم أقل ناجح فالنجاح لا يحتاج لقميص أبيض تنغلق أزراره حتى تحتك ياقته بالذقن لتخنق مرتديه، ولا يحتاج لرابطة عنق قضيت ساعات أحاول أن أحكم ربطتها لتكمل شكل أناقتي ليس إلّا، أرى الجميع يصفقون لي بحفاوة بينهم فتيات تلمع عيناهم ويلوحون لي للفت أنظاري لهن وهظ يهتفون بإسمي، وهناك من ينظرون لي في سخط وتقليل وآراهم وهم يتهامسون فأشعر أن همساتهم تنطوي على ذكر العدم الذي أنا فيه في الواقع لا في مخيلة الأغلبية، فليس كل من وقف له جمهور كهذا يُحيّونه لأنهم مؤمنون به أو لأنه حقًا يستحق التصفيق.فلكل منصب كبير يتولاه شخص وصل لأقصى درجة من الوهم الاجتماعي لشعورهم أنه يملك الكون كله مع كثير من الأضواء والمناظر الخداعة ودعاية زائفة والتهويل من اللاشيء يجعل البقية يتوهمون أنه نموذج يحتذى به.وأنا لا أشعر بقيمة الجائزة التي أمسك بها وابتسم لحصولي عليها وأنا أعتلي منصة لألقي كلمة كنت دومًا أتمنى أن أمر أمامها حتى.كل هؤلاء يرون أنني قد وصلت لمرادي، ومقدمة الحفل تذكر أسماء الفائزين بحماس مصطنع فقط لتبدو ودودة أو ربما أُمرت أن تقوم بهذا، من نفس الذي اختارني لوسامتي بحجة أن هذا هو ما يحتاجه السوق، فتنازلت على الكثير على أمل أن تكون مجرد بداية لكن بعد مرور الكثير لم يلتفت أحد لموهبتي فقط كانوا ينظرون للشخص المشهور، وهشاشة بدايتي جعلت من وصولي سرابًا لكني فقط كنت أحاول أن استمر لإيماني بأن طرق النجاح تضاء لسالكيها وكهوف الفشل ماهي إلّا عتمة موحشة تُبني حولك حتى تظلم أعماقك، لكن ماذا عني وأنا أسير في طريق مضيء بما يكفي لكن نهايته حائط!؟كنت أقف أمام مفرق لا أعلم إلى أي إتجاه أذهب ..اعتدنا دومًا أن نختار اليمين..لكن لماذا نتجاهل اليسار أليس القلب في اليسار ايضًا؟.. وقيل أيض أن التفكير في الحقيقة في القلب لا في العقل..العقل مجرد منفذ للأفكار لكن القرار ملك للقلب! أرى التكدس في اليسار..الضوء يسلط على كل منهم أرى بعضهم يعتلى منصة والبقية يصفقون له وهم يهللون ويضحكون.. يشعرون بالنصر والوصول ..الطريق قد إنتهى ووصلوا لآخره..أعلم أن دخولي فيه سيصعب علي الأمر لأجتاز كل هؤلاء لأصل.. من منهم سيسمح لي بذلك !؟و اليمين به القليل..أخشى أن تكون القلة فخ لأشعر أن الطريق أسهل .. أرى فيه منحدرات وإناس يلهثون لينتهوا منه ..أسمع صوت تألمهم من تعرج الطريق لكنهم يصيحون بأنهم أوشكوا على الوصول لينغرس بداخلهم الأمل ليكملوا.. دومًا كنت أحب الأصعب، كنت أحب ان يُقال عني المحاول لا الواصل لكني أيضًا تعبت.. تعبت من كثرة محاولاتي في طرق معتمة مليئة بالحفر و العرقلة.. أرى الأخرين وهم يصلون بكل سهولة وسط الضحكات والرفاهية، لماذا دومًا اختار المشقة.. فلو كان الوصول أسهل فلنختاره ..ها أنا أرى الأغلبية ينتصرون والقلة تتألم ولا أعلم ماذا سيكون مصيرهم، أرى خلفية الطريقين واحدة..نور مضيء يجذب كل من يراه كأنه لم يرى نورًا من قبل، ها أنا أستنشق الهواء واستجيب لدعوات أصحاب الجهة اليسرى في ظل تحذير وتنفير من في اليمين لكنى قررت وأنتهى الأمر، أدخل بينهم أراهم يدفعون بعضهم وحين سألت أحدهم لماذا الدفع قال لي:• نحن هنا نستغل كثرتنا فندفع بعضنا لنصل أسرع ..نتكاتف لنساعد كل واحد منا ليصل لنهاية الطريق وترد لنا حين يأتي دورنا.. رأى انبهاري بما قاله واقترح علي أن أتقدم ليدفعونني فشكلي يبدو عليه الإنهماك حتى أصل بسرعة. فرحت لتعاونهم وتقدمت ووجدتهم كلهم يدفعوني فعلًا ..ضحكاتهم تعلو بطريقة مريبة .. تصبح كضحكات الساحرة الشريرة في أفلام الأطفال.. أبتسم لأنني أعلم أن كل ما أردته يقترب و سأصل بدفعة واحدة من عدد كهذا ..فعلًا دفعة واحدة قد أوصلتني لحافة الطريق ها هو الضوء أمامي مباشرة..تقدمت بقدمي اليمنى شعرت أنني أقف على هواء فنظرت تحتي وجدت أنني أقف على هاوية وتمتلىء الأرض بمسامير من يقع عليها ينتهى أمره بعد أن تنغرس بكل جزء في جسمه ..التفت لأخبرهم عما أرى لكني وجدت من يقف خلفي مباشرة يبتسم لي ثم دفعني..وبينما أنا أسقط كنت أسمع صوت التصفيق الذي خدعني من قبل، أرى أصحاب اليمين وهم يفزعون من شكلي وأصحاب اليسار يلوحون لي ... وتذكرت أنني لم أسأل الرجل هذا عن مصير الأخير.. من يدفعه ؟ واختفى كل شيء من أمامي حين ارتطم جسدي بقاع المسامير وسمعت صوت صرخة أخبرتني أن كل شيء قد انتهى ليس طريقي فقط، صرخة جعلتني أفيق مما كنت فيه، من فشل انعجن بداخلي كالشمع لكنه دفعني لأفيق لنفسي وأعاقبها لاختيار طريق مختصر نهايته حفرة وتجاهلت جبل متعرج نهايته نجاح، اطمئنان، ثقة، وكل شيء قد تمنيت أن أشعر به .ربما شعرت للحظات أنني ناجح لأنني فعلت ما أحب لكن ماذا لو كنت اخترت طريق ليس لي أو كانت نهايته لم ترضيني؟! وهذا بالظبط ما حدث معي... الحسنة الوحيدة التي فعلتها في كل هذا أنني أتممت الطريق لنهايته ولو كان ليس طريقي لذلك شعرت بالانجاز للحظات، فأنا أيضًا ليس لدي ضمان بأن تراجعي واختياري لآخر سيكون الأصلح لي..ربما المشكلة هي عدم ضماننا لأي شيء في الدنيا كونها دومًا تبهرنا، فحين قررت أن أترك كل هذا لاستعيد شملي أنا وأختي، ذهبت للبيت في يوم وأنا في قرارة نفسي أن أنفذ كل ما طلبته مني من قبل، أن أرافقها دومًا لعلي أعوضها، حين وصلت وجدت الظلام الحالك يغطي البيت، كانت تخشي الظلام وأنا أعلم هذا، بحثت عنها في البيت كله ولم أجدها وجدت ورقة فقط في غرفتها كتبت فيها: أنا بمفردي رغم وجودك..قررت أن أسافر، لا تحاول أن تبحث عني لأنك لن تستطيع أن تجدني، لا أعلم ماذا تحمل لنا الأيام وربما لن أعود لك ثانية لتشعر بما فعلته بي من قبل، لكني أتمنى إذا عدت أن أجد أخي الذي ربيته حتى شب هكذا..وقطعت كل سبل الاتصال بها ولم أعلم عنها شيئًا بعدها، بحثت عنها في كل مكان ولم أجدها كما قالت في ورقتها، استمريت في البحث طويلًا حتى وجدته لا يجدي، فتحت دكان جدي، كان يعمل به أبي ساعاتي حتى مات، كان يجلسني بجواره لأتعلم ولم أكن أرغب في هذا، لكني وجدتني أتذكر الكثير مما علمني إياه، وأصبحت أمرن نفسي على تصليح الساعات وتركيب البطاريات والتلميع وكل شيء يخص الساعات حتى أصبحت محترف، رافقت الوقت لسنوات حتى تعود أختي، لم أسمع عنها سوء فتيقنت أنها مازالت حية.انقضى نصف عمري وأنا لا أعرفني، من بين كل هذا لم أعرف ماذا فعلت في حياتي وكان له قيمة، لم أعرف طريق غير الذي فشلت فيه، ولم أعرف ماذا أريد بعد.. ألقيت برأسي على المكتب لأنام...شعرت أني غفوت لدقائق. عقارب الساعة كانت كعقارب رأسي لا تتركني للراحة، حتى سمعت صوت قدوم أحدًا فرفعت رأسي وفركت عيناي حتى استعد لساعة جديدة أنهمك في إصالحها وحين نظرت أمامي وجدتها هي..شكلها تغير وحالتها لم تبق كما كانت لكنها هي.. أختي، وكأن قرارها كان دفعة لأحاول فهم نفسي، ورغم سعادتي بعودتها لكني كنت أتمنى أن تعالجني بوجودها لا بغيابها، لكني كان يجب أن أعود لتفضيل الأصعب كما كنت.
مشاركة :