يكتسب العقل أهمية كبيرة في الإسلام. فلا تكليف بلا عقل. كما أن العقل شرط لازم في التكاليف وفي العقود. ولكن تم للأسف تحييد العقل في عصر مبكر من الإسلام حيث اشتهر بين المجتهدين الأوائل "السلف" قولهم بأن الدين ليس بالعقل ولو كان الدين بالعقل لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظاهره، في محاولة منهم للجم كل من يفكر خارج الصندوق. وبرغم خطأ الاستشهاد وبطلان الاحتجاج به إلا أنه لقي قبولا لدى من جاء بعدهم. وهكذا أتاح تحييد العقل للعديد من الجُمل البشرية أن تكتسب قدسية كاذبة. واستمرت تلك الجمل بعوارها إلى يومنا هذا وزاد عليها المتأخرون جملا مشابهة مع العودة لمسح باطن الخف بدلا من ظاهره عند اللزوم. مقابل إسقاط دور العقل في الإسلام وأحكامه من قبل المجتهدين الذين يعتقدون بفعلهم هذا أنهم يحمون الدين من جور العقل، أكد القرآن الكريم مرارا وتكرارا على أهمية دور العقل والفكر في قضايا الإيمان والتشريع، بل إن هناك استنكارا واضحا من القرآن على من لايُعمل عقله وفكره أو من يغفل التدبر في الآيات وفي القرآن ذاته. وفي القرآن الكريم ما يفوق العشرين آية تربط الإيمان والشرائع بالعقل ربطا مباشرا أحيانا، أو تستنكر تعطيل الإنسان للعقل صراحة هذا غير آيات التدبر. وهذه بعض الشواهد من الآيات الكريمة: "كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون"الروم 28 "ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون"العنكبوت 35 "وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لايعقلون"يونس 100 هذا الحث على التفكر والتدبر وإعمال العقل من القرآن يقابله رهاب غير مبرر من قبل رجال الدين. والحقيقة أن هذا الرهاب للعقل من قبل رجال الدين لم يكن حصرا على الإسلام فقط، فقد أصاب الأديان الأخرى مما نتج عنه عداء مستحكم بين العلم والعلماء وبين رجال الدين، ونشأ في المسيحية مصطلح "لاتفكر بل آمن" كان السلاح المستخدم للجم العقل هو الرمي بالهرطقة والزندقة مبررا لفظائع ارتكبت في حق العلماء. وتاريخ الكنيسة مليء بأمثلة كثيرة للسحل والقتل لعلماء قالوا بغير ما يعتقده رجال الدين في مسائل الحياة والكون، وكذلك حرق مؤلفات تخالف رأي الكنيسة حتى ولو كانت مؤلفات علمية بحتة. وربما كان ذلك هو السبب الذي حدا بكبير القساوسة في عصر الظلمات إلى أن يغض الطرف عن حبر متبحر في النصرانية ويرفض أن يضمه لكنيسته رغم التزكيات الكثيرة والثناء على علمه من قبل العارفين. أعلنها كبير القساوسة صريحة وقال لا أريد عالما صاحب رأي يملك زمام فكره ويُعمل عقلا لا أعرف له ضوابط، بل أريد عقولا طرية "أطفالا" أشكلها كما أريد فتشب على ما نعلمها ويصبح هو الحق وما سواه باطلا. ثم نختار منهم من يحمل رسالة الكنيسة من بعدنا، وبهذا نضمن استمرار نهجنا.
مشاركة :