هذا زمانك يا مهازل فامرحي!!! دولة قائمة بكامل مقوماتها القانونية والدستورية والسيادية، بأرضها وحدودها وشعبها الذي يربو عن 30 مليون مواطن، برئيسها المنتخب مباشرة بالإرادة الشعبية (بنسبة 68% في آخر انتخابات عامة أجريت في 20 مايو الماضي 2018م). بلد – رغم الصعوبات الاقتصادية التي يعيشها-يملتك أكبر احتياطي نفطي في العالم، ولكن مشكلته الرئيسية أنه لا يعجب الولايات المتحدة الأمريكية، وبعض حلفائها القريبين والبعدين، ولا سياسته تروق لها ولا تروق لهم! ولذلك تم الدفع برئيس البرلمان ليعلن نفسه رئيسا بالوكالة شاطبا بذلك وجود الرئيس الشرعي ومقفلا باب الدستور والقانون، وتعلن الإدارة الأمريكية وعدد من حلفائها اعترافهم بمنتحل الرئاسة كرئيس مؤقت، وتمنح بلدان في الاتحاد الأوروبي الرئيس الشرعي ثمانية أيام للإعلان عن انتخابات رئاسية جديدة، والمغادرة، وإلا تعترف بمنتحل صفة الرئيس!! هذا البلد هو فنزويلا الذي تعاني وضعا اقتصاديا وماليا صعبا، استغلته الإدارة الأمريكية للعب بالأمن الوطني لهذا البلد ووحدته الوطنية، وسلمه الأهلي، من خلال تشريع التدخل في الشؤون الداخلية والعمل على إسقاط الرئيس الشرعي المنتخب من الشعب.. هذه الصورة الفنتازية ليست سيناريو لأحد أفلام العصابات الكولومبية أو أفلام الخيال، بل هي صورة عن التطور الدراماتيكي في مجال انتهاك السيادة الوطنية للدول، والتدخل في شؤونها الداخلية، وإسقاط الحكومات الشرعية والانقلاب عليها، والدفع بالعملاء الجاهزين لاستلام السلطة. وبغض النظر عن طبيعة النظام في فنزيلا وعن أخطائه، فإن مثل هذا الفعل الذميم الذي أقدمت عليه القوى الخارجية المتدخلة-وهو شبيه إلى حد كبير بما فعلته إدارة بوش الابن في العراق في العام 2003م - هو فعل خطير ومخيف على ما بقي من النظام الدولي القائم على القانون والشرعية الدولية، فكل من يقبل مثل هذا الجنون السياسي اليوم، فقد يأتي عليه الدور في الغد!! في العهود السابقة كان الانتماء للوطن عقيدة، والدفاع عنه واجبا مقدسا، ولكن في النظام الدولي الجديد – وفقا لهذا المنطق الاخرق-أصبح الانحياز ضد الأوطان فضيلة (ديمقراطوية)، وما كنا نسميه (خيانة وطنية) لم يعد كذلك، بل تغيرت التسمية إلى مجرد (نشاط حقوقي)، والوطنية الوحيدة التي يسمح بها النظام الجديد هي تلك النعرات البدائية التي تشطر الوطن إلى وطنين وفككه إلى أحجار لا متناهية. وقد رأينا خلال السنوات القليلة الماضية نماذج من هذه الانتهاكات الفجة، عندما يتحول سفراء الدول الكبرى إلى باعة جائلين لتسويق النصائح والتوجيهات وحتى التعليميات الجاهزة... بل إن بعضهم أصبحوا أقرب إلى المقيمين العامين في العهد الاستعماري المنقرض!! ولذلك لا نستغرب ما يحدث اليوم لفنزويلا، ولا نستغرب انسحاب تلك اللغة المهذبة (الدبلوماسية) لتحل محلها لغة التدخل الفج والاستفزازي والتهديد بالاجتياح العسكري، ومنح الرؤساء الشرعيين مهلا للمغادرة، بل ومنحهم عفوا ممن لا يمتلك حق العفو ولا أي نوع من الشرعية. إن حق التدخل المزعوم، والذي بمقدور الدول الكبرى لوحدها تطبيقه عمليا، يستعيد عصر الامبريالية القديمة المغلفة بشيء من الأخلاقية المزيفة وادعاء نشر الديمقراطية والدفاع عن حقوق الإنسان. ونستذكر هنا من دروس التاريخ الحديث تصويت الجمعية الوطنية الفرنسية في العام 1789 على شرعية احتلال عدد من الدول، مؤكدة انه«لا سيادة للشعوب المتخلفة»، بما سهل الانزلاق نحو الحملات الاستعمارية في القرنين التاسع عشر والعشرين. وتعود اليوم نفس تلك الممارسات والمواقف الاستعمارية في ثوب جديد، يتستر بحقوق الإنسان ونشر الديمقراطية، وإعداد وتكوين وتمويل قوى داخلية تكون بمثابة حصان طروادة لعبور الخارج إلى الداخل ومنحه نوعا من الشرعية. واستغلال المجتمع المدني وتوظيفه ليكون جسر العبور الرئيسي. وللأسف فإن بعض مكونات هذا المجتمع المدني أصبح لا يعمل بالمبدأ الوطني، بالرغم من كونه لا يمكنه الحلول محل المواطنين او تمثيلهم، ولا الحلول محل الدولة الشرعية التي ما تزال تمثل الإطار الأعم للشعب، لممارسة السلطة وتأكيد حضورها وتكريس الاستقلال الوطني، وحماية الثروة الوطنية. بيد انه ليس مقدرًا على هذه الدول أن تبقى في مواجهة هذا الوضع المتكالب الذي تتعرض فيه لانتهاك السيادة الوطنية من قبل القوى الغاشمة التي أصبح يحق لها إصدار الأوامر وتحديد (الصالح والطالح): قوانين البلاد ومؤسساتها الدستورية والقانونية والتنفيذية والقضائية لم تعد مهمة، ويكفي أن تتحرك في الداخل جماعة (التابعين) حتى تتحرك القوى الخارجية وناطقوها الرسميون بالتحذير والتهديد والوعيد وإطلاق سلسلة الدروس والمحاضرات إياها. وفي مثل هذا المناخ الدولي المريض، فقدت العلاقات الدولية مناخها السياسي والأخلاقي السليم المؤسس على الاحترام للسيادة الوطنية، وصار عمل العملاء والمدجنين مقبولا باعتباره عملا (ديمقراطيًا) وأصبح (هؤلاء) دعاة حرية يمنحون الجوائز والشارات والميداليات، ويتم الإعلان عن أسمائهم في حفلات الزار الدولية.. لقد أسست الولايات المتحدة وبريطانيا بعدوانهما على العراق لمنطق جديد ينهي ما بقي من النظام الدولي القديم الذي كان يعتمد على القانون الدولي وعلى الشرعية الدولية، كمرجعية أساسية لسلوك الدول، وما يحدث لفنزويلا اليوم شبيه بما حدث للعراق في 2003 وان تغيرت الآليات والوسائل. نعم، اقتصاد فنزويلا في حالة صعبة، ولكن هذه الصعوبات متأتية بشكل رئيسي من الحصار الخانق من الولايات المتحدة الامريكية وحلفائها الذين لا يعجبهم النظام في هذا البلد. ولكن من المرجح أن أمريكا ستجد صعوبة كبيرة فرض إرادتها السياسية على هذا البلد، حتى وإن سقط مادورو بالتدخل الخارجي الغاشم، لأن المؤسسة العسكرية الفنزويلية والقسم الأكبر من المجتمع ما يزال يرفض منطق الانقلاب على الشرعية. ولذلك ومهما كانت نتائج هذه المواجهة التي عززت حالة الاستقطاب والانقسام على الصعيد الدولي، فإن أفضل وسيلة للدول الحريصة على سيادتها، أن تعزز وحدتها الوطنية وجبهتها الداخلية بانتهاج سياسات محققة لهذا الهدف، وهو صمام الأمان الرئيسي لمواجهة الهمجية الدولية السائدة. همس لم يبق من غيمة الماء المنساب غير مطر عابر، وجدول جفت مياهه. كل ما أذكر في لحظة الحلم: غيمة ومركبا مهجورا وغابة سنديان وفراشة صفراء، تهرع لاهثة وحيدة. وتلك الأبواب الرفيعة المحروسة المشدودة إلى سلاسل قديمة، مكسوة بالعشب، وطفلا يعزف على الناي في آخر الممر البعيد، والزمن قد ألقى أشرعته الأخيرة.
مشاركة :