صديق الجميع - د. عبد الله بن إبراهيم العسكر

  • 2/25/2015
  • 00:00
  • 13
  • 0
  • 0
news-picture

كان عنيدًا لدرجة لم يحتملها عقلي وقلبي. وهو يعرف متانة العلاقة التي تربطنا وأنا أعرف ذلك أيضا، لكنني في تلك الأمسية في بهو فندق شيراتون القاهرة أصبت بما يشبه فقدان البوصلة. وفي الصباح ونحن على مائدة الإفطار بثثت له ما أصابني من شدته وصلابته. فقال لي هذا أسلوبي ومُنتج عقلي، أما قلبي فبين يديك ياعبدالله.. غيّب الموت –والموت قاهر– الأسبوع الماضي صديق الجميع: الدكتور راشد المبارك، الذي يطرب لكنيته (أبوبسام) ولهذا يندر من يدعوه باسمه أو بلقبه العلمي. أبوبسام ولد في مدينة الهفوف عام 1354ه الموافق 1935م التي أكمل فيها مراحل التعليم العام، حيث حصل على شهادة إتمام المرحلة المدرسة الثانوية عام 1378 ه واشتغل بعدها في وظيفة كتابية في مكتب مالية الأحساء ثم انتقل إلى وظيفة أخرى في المحكمة الشرعية بالقطيف. لكن طموحه وحبه للعلم قاداه إلى جامعة القاهرة، وتخرج بدرجة بكالوريوس في تخصص العلوم (كيمياء وفيزياء) عام 1384ه ثم حصلت له فرصة تعيينه معيدًا في كلية العلوم بجامعة الرياض (الملك سعود الحالية) ثم ابتعث إلى جامعة مانشستر وحصل على دبلوم عالٍ في تخصص الفيزياء الجزئية. عاد إلى الرياض عام 1389ه وعمل في مختبر التحاليل الكيميائية بوزارة الزراعة. ثم حصل على بعثة لدراسة الدكتوراه في جامعة جنوب ويلز بمدينة كارديف ببريطانيا، وأنهى الدرجة العلمية في تخصص الكيمياء الكمية عام 1393ه الموافق 1974م. وعاد إلى جامعته برتبة أستاذ مساعد. كل ما سبق مقدمة منطقية للنقلة النوعية والكمية في حياة الفقيد. لم تمض سنوات قلائل إلاّ ويطلب أبوبسام التقاعد المبكر. وهو وإن ابتعد كثيرًا عن تخصصه العلمي، إلاّ أنه وضعه منصة لانطلاقة أوسع في عالم الفكر والأدب والفلسفة، وهو اشتغل بكتب الفلاسفة العرب لقرب هذا العلم من التفكير العقلاني المجرد. ولعل تلك الخطوة الجريئة في وسط اجتماعي محافظ هي التي وسمت أبابسام بوسم التحرر العقلي والتنويري. وبالتالي نجد أنه لا ينفك عن ضرب الأمثلة لقوة العقل في تطبيقات العلم الصلب. وقد يثور سؤال منطقي لمَ اختار أن يجعل العلم الصلب مدار أمثلته مبتعدًا قدر المستطاع عن ضرب أمثلة من دروس الفلاسفة في نقد الواقع المعاش في فضاءات الاجتماع والدين والثقافة. في ظني أن الأمر لا يتعدى إحدى حالتين: الأولى أنه لم يتوفر في تلك المرحلة على تفكيك مفاصل تلك الفضاءات بما يجعله يتخذ منها أمثلة. والحالة الأخرى تشيء إلى أن الركون إلى العلم الصلب أدعى إلى القبول، وآمن في المآلات، وبالتالي ستكون المحاججة والمعارضة المجتمعية أخف وطأة وربما منعدمة، مما يجعله في منأى عن المصادمة المجتمعية في تلك المرحلة المبكرة. أما معايير نقده للعلوم الإنسانية وعلى رأسها النثر والشعر فهي تستند إلى مبتكراته، وهي تجمع بين الفكر العلمي الصلب، والفلسفة وعلم النفس ونظريات الأدب العامة، على أن بعض نقاد الأدب يرون أن هذه المعايير مختالة. وجاءت نقطة الاشتهار إن جاز التعبير من انطلاقة ندوة الأحد الأسبوعية منذ عام 1981م التي أضحت ميدانًا واسعاً لمطارحات يغلب عليها: حقول العلوم التطبيقية وحقول العلوم الإنسانية. وكان نصيب الأسد للأدب العربي بتفرعاته، والثقافة والتعليم والمعرف والفلسفة والفكر. وقد كان كثيرًا ما يردد على مسمعي من شعره أبياتًا فصيحة أو شعبية مليحة. مثل قوله: تباعد خطوًا ثم تدنو كأنها فراشة روض تختفي أو تؤوب إذا ما ثنت خصرًا تغشته موجة من الشعر يبدو خلفها ويغيب وإذ نظرت ألقت إليك بأسهم حداد لحبات القلوب نصيب وهو في حياته العقلية لا يبالي بالموافق له أو المعارض، فقد كانت لديه شجاعة قوية، فعلى سبيل المثال هاجم علمين من أعلام الشعر العربي: أبا الطيب المتنبي ونزار قباني. وقد عرفت فيه صفة أسمعها عنه لكنني لم أجربها، وهي كرهه للشاعرين خصوصًا المتنبي. وقد وقفت مرة ضد رأيه في شعرهما بل وفي شيء من شخصياتهما. فثارت ثورة أبي بسام، وكان عنيدًا لدرجة لم يحتملها عقلي وقلبي. وهو يعرف متانة العلاقة التي تربطنا وأنا أعرف ذلك أيضا، لكنني في تلك الأمسية في بهو فندق شيراتون القاهرة أصبت بما يشبه فقدان البوصلة. وفي الصباح ونحن على مائدة الإفطار بثثت له ما أصابني من شدته وصلابته. فقال لي هذا أسلوبي ومُنتج عقلي، أما قلبي فبين يديك ياعبدالله. كان لا يكتفي أن أحصل على جدول ندوة الأحدية، بل كان يهاتفني ويحثني على الحضور مبكرًا. وقد طلب مني عدة مرات أن أدير الندوة، على أنيّ اعتذرت المرة تلو الأخرى، خشية أن أقول رأيي بصراحة في مسألة يؤمن بها. ومع هذا فقد أصبح على مدار أربعة عقود أخاً لي لم تلده أمي، يدعوني لبيته في غير الأحدية وأدعوه، ونسافر مع بضع، ويبثثني خوالج نفسه وآهات قلبه، ويستشيرني في خصوصياته. وكذلك أفعل معه. لم نختلف أبدًا إلاّ في بعض مسائل الأدب والفلسفة. رحم الله صديق الجميع. إنه أخ لا يعوض.

مشاركة :