هوامش روسية - د. عبد الله بن إبراهيم العسكر

  • 3/9/2016
  • 00:00
  • 19
  • 0
  • 0
news-picture

ما رأيته واضحًا هو تركيز صانع السياسة الروسية على القومية الروسية، خصوصًا في الفضاء السياسي الخارجي، والتأكيد على ضرورة استرداد روسيا المكانة التي افتقدتها منذ قيامها ليل الشتاء القارس في موسكو - حيث قضينا أربع ليال - يبعث على التأمل فيما نرى، ونسمع ونقرأ. وما أقرأه هو جريدة صغيرة عنوانها: أخبار موسكو، لا تشفي الغليل، لكن كان ما نسمع هو المعول عليه في تقييد هذه الهوامش. لاحظت سلوكًا مجتمعيًا غير راض على الواقع المعاش، لكنه سلوك غير مسموع. ولعل ذلك راجع للظروف الأمنية القوية. أما الوضع الاقتصادي فيشهد توترات واضحة، خصوصًا مع خسارة الروبل الروسي لنسبة عالية من قيمته أمام الدولار الأميركي، وهموم المعيشة اليومية، وارتفاع الأسعار، وارتفاع معدلات البطالة الصعبة. ولابد من العودة إلى الوراء عقدين أو أكثر، حيث حقبة انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991، وإعلان جمهورية روسيا الاتحادية، واستقلال دول الكومنولث الواحدة تلو الأخرى، كل ذلك أدى إلى تدهور وانهيار شديدين في الدولة الروسية داخليًّا (الاقتصاد، التجارة، الاستثمار.. إلخ) وخارجيًّا (السياسة الخارجية، المكانة الدولية.. إلخ)، حتى أُطلِق على روسيا لقب "الرجل المريض"، وذلك في عهد الرئيس الروسي الراحل بوريس يلتسن. وبعد تولي بوتين السلطة في أبريل 2000، اعتمد استراتيجية تهدف لدعم سلطة الدولة المركزية، وتشديد قبضتها على المؤسسات الاقتصادية والسياسية وتقوية قدراتها الاستراتيجية. وبالتالي بدأ في تقويض سلطة أباطرة رأس المال والسياسة في روسيا واعتقال بعضهم، كما اتجه إلى تعيين حكام الأقاليم الروسية بدلاً من انتخابهم، واختيارهم ممن يعرفهم ويثق في قدراتهم. وقال لي المترجم الروسي المرافق لنا إنه لو كان بوتين مكان غورباتشوف لما انهار الاتحاد السوفياتي. قال ذلك بنبرة أسى. لهذا سمعنا ورأينا بوضوح عزم الرئيس بوتين على أن سنوات الضعف والمهانة قد ولَّت، وطالب الولايات المتحدة وأوروبا بمعاملة روسيا باحترام، وكقوة لها مكانتها ودورها العالمي. واتجه بوتين إلى بناء علاقات شراكة مع كلٍّ من الصين والهند، وإلى استثمار ميراث الاتحاد السوفياتي السابق، وما بناه في مناطق مثل الشرق الأوسط وأميركا اللاتينية. الواضح لي من خلال لقاءات وأحاديث جانبية أن بوتين قد كرَّس قدرًا ملحوظًا من اهتمامه لصياغة اتجاه جديد وقوي للسياسة الخارجية الروسية، تحاول استعادة المكانة التي كان تبوأها الاتحاد السوفياتي السابق في مرحلة الحرب الباردة، مع إحداث بعض التغييرات الجوهرية بحيث تتفق مع الوضع الجديد؛ ليمكِّنها من تحقيق طموحاتها في عصر العولمة وحرية الأسواق. وما رأيته واضحًا هو تركيز صانع السياسة الروسية على القومية الروسية، خصوصًا في الفضاء السياسي الخارجي، والتأكيد على ضرورة استرداد روسيا المكانة التي افتقدتها منذ قيامها، وإنهاء الانفراد الأميركي بموقع القمة. ولا شك عندي أن بوتين يسعى إلى عودة التعددية القطبية محل القطب الواحد. وأكد معظم من قابلناه أن موسكو لن تقبل تحديد قواعد اللعبة في الاقتصاد والسياسة الدولية من وراء ظهرها أو بمعزل عنها وعن مصالحها. وبخصوص السياسة الروسية تجاه الشرق الأوسط سمعت إصرارًا على اعتبار العلاقة العربية - السوفاتية التاريخية مدخلا لعلاقات جديدة. رأيت أن الإعلام الرسمي الروسي يسعى لإقناع الشعوب الروسية أن بعض مشكلاتهم الكبيرة هي بسبب السياسة الأميركية، وبالتالي بُنيت استراتيجية روسية تقوم على إنهاك الولايات المتحدة الأميركية استراتيجيا عن طريق مزاحمتها في منطقة الشرق الأوسط، وذلك من خلال مواجهتها في أكثر من ساحة: في إيران والعراق وبالأخص في سورية. وهذا نابع من إدراك القيادة الروسية أنه حينما يأتي الوقت لإعادة حساب موازين القوى العالمية على الرغم من معرفة موسكو التامة بأنها لا تستطيع معادلة القوة الاقتصادية أو العسكرية الأميركية في أي وقت قريب فإنه يمكنها حينئذٍ رفض بقائها كقوة عالمية من الفئة الثانية، والإصرار على ضرورة إعادة تشكيل ميزان القوى العالمي، وإحدى وسائلها إلى ذلك هي تلك المشاغبة المستمرة والمُنهِكة للولايات المتحدة. وكرر علينا من قابلناه من الحكومة أو من مجلس الدوما أو مجلس الفيدرالية الروسي أن سياسة روسيا الخارجية تسعى للحفاظ على الوضع الأمني واستقراره الداخلي، وتعميق أواصر العلائق مع دول الجوار في الفضاء السوفياتي السابق، وتطوير العلاقات الاقتصادية والسياسية والثقافية مع البلدان العربية. أما نظرة موسكو للربيع العربي فقد سمعناها مكررة مع كل من قابلناه ومفادها: إن أحداث ما سُمِّي بالربيع العربي هي مجرد حركات تمرد، وتظاهرات وأعمال شغب قام بها البعض من أجل إزاحة السلطات الشرعية عن الحكم. بالإضافة إلى أن روسيا تخشى من خطر التطرف الديني الإسلامي، وما يشكِّله على الاستقرار والأمن الداخليين الروسيين، خصوصًا مع وجود بعض الجماعات المسلحة الإسلامية المتطرفة الموجودة ببعض دول القوقاز وآسيا الوسطى. تلك الأفكار التي تكاد تجدها في كل مكان لاشك عندي أنها صيغت بعيدًا عن المجالس التشريعية. فلم أجد فرقًا واضحًا بين النائب المنتخب والنائب المعيّن، عندما يأتي الحديث عن التدخل الروسي الكبير في سورية أو الربيع العربي، الذي يعدونه ثورة إسلامية، فمن المرجّح في نظرهم أن يهيمن عليه المتطرفون. وهم يخشون من المتطرفين الروس الذين يحاربون في صفوف داعش وجبهة النصرة، ولم يقبلوا مني فكرة أن سياسات الكرملين في سورية لن تلقى نجاحاً على المدى الطويل. وهي تضرّ بشكل خطير بعلاقات روسيا مع العالم العربي والإسلامي. وقلت لهم إنكم تؤسسون لقطيعة صلبة مع الشعب السوري، وترسلون رسائل خاطئة للعالم العربي والإسلامي وأحرار العالم. aalaskar53@yahoo.com

مشاركة :