أقدم محمد جواد ظريف وزير الخارجية الإيراني على تقديم استقالته، بداية الأسبوع الماضي؛ في سابقة هي الأولى من نوعها في الدبلوماسية الإيرانية، عبر حسابه على تطبيق إنستجرام. لم يتأخر الرئيس روحاني في إعلانه رفض الاستقالة، ليتبعه قاسم سليماني قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني أشد خصوم ظريف، مؤكدا عدم وجود نية مسبقة لاستبعاد ظريف من المشهد السياسي، عادا ما حدث في استقبال بشار الأسد في طهران من قبل الرئيس، كان بسبب خطأ في البروتوكول، مرده عدم التنسيق مع رئاسة الجمهورية. يعد ظريف في نظر الإصلاحيين أحد الأوجه الناعمة لسياسة الخارجية لإيران، ويوصف بالدبلوماسي الهادئ والسياسي المحنك الذي قاد الدبلوماسية الإيرانية لسنوات، استطاع خلالها أن يجلب لإيران اتفاقا نوويا، كان حلما بعيد المنال عن نظام الملالي في طهران. فيما يعده خصومه مجرد بروباجاندي محترف، ويذهب البعض حد اعتباره في النظام الإيراني بمنزلة باول جوزيف جوبلز وزير الدعاية السياسية لألمانيا في عهد هتلر. فخلف الابتسامة العريضة، يتوارى متطرف يبرر كل انتهاكات حقوق الإنسان، لمجرد أنها تجري في حق معارضين للأيديولوجيا التي ينتصر لها. سياسة خارجية برؤوس متعددة أفاد مراسل أحد المواقع الإخبارية الإيرانية أن ظريف رد على استفساره عن دواعي الاستقالة؟ بقوله "بعد صور لقاءات اليوم لم يكن لمحمد جواد ظريف مكانة في العالم كوزير للخارجية"، في إشارة إلى لقاء بشار الأسد كلا من خامنئي وروحاني وسليماني، ما يعكس طبيعة العزلة التي يعيشها الوزير ظريف داخل النظام. يصعب على كل متابع للشأن الإيراني تصديق هذه الرواية، فإهانة "مقام وزارة الخارجية" ليس سوى حلقة من مسلسل طويل من الصراع بين الإصلاحيين والمحافظين، أو بتعبير أدق بين أنصار عقلية الثورة وأنصار عقلية الدولة، ما أحدث شرخا كبيرا في بنية الدولة. كرست طبيعة النظام السياسي في إيران منذ الثورة، ثنائية طبعت السياسة الخارجية، ما أصاب السلوك السياسي بكثير من الشلل، وأضحى محط شكوك من قبل اللاعبين في البيئتين الإقليمية والدولية، بعدما طغت عليه الازدواجية في الخطاب، ما بين لغة التعاطي مع الآخرين، باعتماد وسائل دبلوماسية على لسان وزارة الخارجية. ولغة التهديد والوعيد والويل والثبور لدى رموز الحرس الثوري ومستشاري المرشد الأعلى. حاول الرجل أكثر من مرة أن يثبت للعالم أن وزارته هي التي تتحكم في السياسة الخارجية، وليس جهات أخرى في النظام، فعمد إلى زيارة دولتي العراق ولبنان لتأكيد أن بلاده تتعامل بسياقات دبلوماسية طبيعية مع دول الجوار. خطوة لم ترق كثيرا لقادة الحرس الثوري، فهي بالنسبة إلى كثيرين تمهيد من جانب ظريف للعودة إلى طاولة التفاوض مع الولايات المتحدة الأمريكية بشأن الشروط الـ12، التي من ضمنها إعادة النظر في سلوك إيران الإقليمي. وجد ظريف نفسه أخيرا في مواجهة مباشرة مع قاسم سليماني، الذي يُنعت بمهندس العمليات العسكرية في الخارج، حين دعا إلى ضرورة انضمام إيران لاتفاقية باليرمو لمكافحة غسل الأموال ودعم الإرهاب. وأيضا حين أبدى رغبته الملحة في ضرورة إبعاد السفارات الإيرانية عن أنشطة فيلق القدس المثير للشك. وما حادثة اعتقال السفير الإيراني في كينيا؛ الأحد قبل الماضي، بعد محاولته تهريب اثنين من عناصر فيلق القدس الإيراني العاملين في السفارة الإيرانية هنا، سوى دليل قاطع على استحواذ قيادة الجيش على الأدوات الدبلوماسية. تحاول قيادة الحرس الثوري من جانبها، تأكيد أنها الجهة النافذة في صناعة السياسة الخارجية للبلد، وأن وزير الخارجية مجرد منفذ لمخططاتها. وتبقى محاولات جهاز استخباراتها العودة بالمفاوضات النووية إلى المجلس الأعلى للأمن القومي في إيران، وسحب الملف من يد الخارجية خير مثال على ذلك. علاوة على اتهام كثير من الشخصيات السياسية في فريق ظريف التفاوضي "أصفهاني، موسويان..." بالتجسس والخيانة. صراع ينذر بمستقبل مجهول إن إمكانية الحديث عن مستقبل للتحولات السياسية في إيران سيكون قريبا من التكهن أكثر من التوقع، فلا يمكن الحديث عن سياسة واضحة المعالم في ظل صراع محموم بين قوى لا تختلف في كل شيء سوى إنهاك الشعب الإيراني واستغلال ثرواته من قبل أقلية حاكمة، لكل طائفة أجندة خاصة بها. لا شك أن مقام الرئيس والرئاسة ذو سلطة شكلية، متى تعلق الأمر بالمسائل الاستراتيجية في البلد، وما واقعة استقالة ظريف سوى دليل آخر على صدقية هذا الرأي. فمؤسسات الدولة في جمهورية العمائم مهمشة ولا دور لها، فالحاكم الحقيقي للبلد هو المرشد وجهاز حرس الثورة. فالسياسة الخارجية التي يدافع ظريف عن استقلاليتها، تبقى مقسمة بين جهاز الحرس الثوري والمرشد بمعية أعضاء مجلس المستشارين الخمسة "كمال خرازي، علي أكبر ولايتي، علي شمخاني، محمد شريعت مداري ومحمد حسين تارامي"، فهما من يرسمان الخطوط العريضة السياسة الخارجية الإيرانية، ليكتفي ظريف بالهوامش والواجهة الإعلامية فقط. إن النظام في إيران لن يسمح للإصلاحيين باللعب حتى في الهوامش، بعد واقعة ظريف التي استخدم فيها رصيد تجربة 40 عاما من العمل الدبلوماسي، ووظف أساليب التفاوض مع الغربيين في معركة داخلية، وعاد إلى منصبه بعدما قلب الطاولة على الجميع. عودة من شأنها منح إضفاء مزيد من الشرعية على دعوات تيار المتشددين، ممن يطالبون بانتخاب شخصية عسكرية رئيسا للجمهورية. وبدأ الحديث في الكواليس عن قائمة تضم شخصيات عديدة أمثال قاسم سليماني "قائد قوة القدس"، محسن رضائي "القائد السابق للحرس الثوري الإيراني"، ومحمد باقر قاليباف "قائد سابق لسلاح الجو في الحرس الثوري وعمدة طهران حاليا".. لكن قاسم سليماني يبق الأوفر حظا في هذه اللائحة، بحكم علاقاته داخليا مع أركان الدولة العميقة. دعوات بدأ الإعداد لها مبكرا من خلال إمكانية تكرار سيناريو ظريف مع الرئيس روحاني الذي يبقى غير محصن، فجهود استجوابه في مجلس الشورى ما زالت مستمرة، وتحريض الرئيس الإيراني الأسبق أحمدي نجاد لسحب الثقة منه، وتشكيل حكومة انتقالية تتزايد، ما يعني في المحصلة إعادة صياغة المشهد السياسي في إيران.
مشاركة :