هرطقة اقتصاديين

  • 3/8/2019
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

يحظى علماء الاقتصاد في عالم اليوم بإجلال لا يعرفه سواهم من منتسبي العلوم الاجتماعية، يعود ذلك إلى ما ترسخ في الأذهان من دقة مزعومة تسم تناولهم لموضوع بحثهم، ففي هذا تراهم يغالون في توسل لغة الأرقام وتوظيف نماذج رياضية، ولا ريب أن مما ساعد في ذلك، أي على تكميم مادتهم البحثية، هو انحصارها في شأن تبادل السلع والخدمات، لكن ما لا يعلمه إلا القليلون هو أن تلك النماذج هي محض محاولات لمحاكاة الواقع، وأنها إن لم تفعل ذلك، فكأنها فن لا يؤتي خبزا. وهي في الحقيقة نادرا ما تصدق على المدى الطويل، فإليك مثلا ما أهدر من ورق منذ أكثر من نصف قرن أو يزيد حول تنبؤات بأسعار النفط وقس عليها، ولو جاز للمرء أن يسترسل لزعم أن ما بيد الاقتصاديين من أدوات ليس مفتاحا لكل باب أو مصباحا يبدد كل ظلام، فلو كان الأمر كذلك لكان في أيديهم ما يغنيهم عن العمل كاقتصاديين! على أن الغرابة لا تلف فحسب سلوك الاقتصاديين وحقيقة ما يحيطون به أنفسهم من إجلال، بل يطول أيضا علم الاقتصاد ذاته، فخلافا لسائر العلوم، لا سيما الاجتماعية، يضع مبحث الاقتصاد مسلمات خاصة تمثل منطلقا للبحث وبناء النظرية، ورغم بداهة هذه المسلمات عند دارسيها فإنها تبدو لي هدفا للنقد، هذا إن لم تكشف عن هشاشة في بعض المواضع. فهناك مبدأ الندرة، حيث يبدو أن علم الاقتصاد قد استمد اسمه منها، ومؤدى ذلك أن الموارد نادرة ولذا فلا بد من الاقتصاد في استغلالها، والحق أن هذه المسلمة إذا كان الغرض منها تسويغ بناء القانون العلمي فهي حجة على علم الاقتصاد ذاته، فما دامت تلك الموارد محدودة أو نادرة فبالإمكان حصرها، ورغم ذلك فليس بين أيدينا ما يعكس قيمة الموارد المتاحة حول العالم، وإذا كان القصد من افتراض ندرة الموارد تهذيب السلوك وغرس قيم الاقتصاد في استغلالها، فلا يبرر ذلك بناء علم بأسرِه على مسلمة غير مبرهن عليها، فالأديان مثلا، لا سيما الإسلام، تتعرض لآفة هدر الموارد، حيث يشبه الإسلام المبذرين بإخوان الشياطين وأن الله لا يحب المسرفين، وذلك بحسب النص القرآني. ومع ذلك فإن حديث الإسلام عن موارد تحت تصرف الإنسان حديث في المطلق، وذلك في ضوء قوله: "وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها". المسلّمة الأخرى مشتقة من سابقتها في ندرة الموارد، ومؤداها أن الإنسان مسكون بغريزة اقتصادية في استغلاله للموارد، فهو إنسان اقتصادي بطبعه، والحق أن توجيه النقد إلى هذه المسلّمة أهون من سابقتها، ذلك أن مشاهد صنع القرار غير الراشد اقتصاديا لا تكاد تنقطع، خصوصا ما يفضي منها إلى هدر مباشر للموارد وبذا مضاعفة ندرتها حسب المنطق الاقتصادي. ومما يسحب البساط من تحت هذه المسلّمة أن من يكشف عن عدم رشد في استغلال الموارد ليس أولئك البسطاء الذين يبدون في بعض الأحيان تحفظا في استغلالها، بل من يحمل صفة اقتصاديين أو ممن هم على دراية بمقتضيات السلوك الاقتصادي، ففساد الدول المتمثل عادة في إفناء الموارد يأتي دائما تبعة لقرارات من كبار صنّاعه في جهاز الدولة. ومع ذلك، لو شئنا مزيدا من التمعن في مدى صدق مقولة الإنسان الاقتصادي لاتخذنا سوق الأوراق المالية مثالا، إذ يشار إليه كنموذج للسوق الحر البعيد عن كل ما يخل باتخاذ القرار الاقتصادي، ومع ذلك لا ينكر أحد أن ذلك السوق طالما كان ميدانا لقرارات بالاستثمار أبعد ما تكون عن الرشد، فهناك مثلا قرار جحفلة من المستثمرين بوضع أموالهم في أسهم لبخس قيمها السوقية فحسب، ولكن دون أي دليل ملموس على جدوى الاستثمار فيها من ملامح تعافٍ أو عائد يلوح. ومنها إلى الاستثمار في الاتجاه الآخر، أي في أسهم متضخمة القيمة ومتجاوزة لكل مستوى معقول أو راشد لمعامل الربحية، كما لو أن سعر السهم يجري في اتجاه أحادي، هذا ناهيك عن أفواج غفيرة من مستثمرين يضعون مدخرات أعوام من سني كدهم في أسهم شركات دون تكلف معرفة بموقعها في السوق أو ماذا تصنع. ولو شئنا الاستزادة لتحدثنا عن منتجات مالية تتداول في الأسواق منذ سنوات وهي أبعد ما تكون عن الاستثمار الرصين، بل ما أقربها من ألعاب القمار وسواه، أو لعلها حقا كذلك!

مشاركة :