يجول الزائر بناظريه في مدينة جدة، فيرى مجسماتها ذات الأشكال المختلفة الجميلة تزين شوارعها وميادينها وكورنيشها، منها ما هو واضح المعنى، وأخرى تستوجب عصفاً ذهنياً للوصول إلى معناها، هي حصيلة دعم لا محدود توافق مع فكر وذوق رجل أحسن التصرفـ فغدت جدة في عهده منافسة لمدن كبرى آنذاك مثل دمشق والقاهرة إن لم تتفوق عليها بحسن تنميتها، ألا وهو أول أمين لجدة المهندس محمد فارسي الذي استطاع مزج علمه الهندسي بعمله المتوارث كجوهرجي ليضع لبنات جدة العصرية، بجهود ملموسة اضحت وجبة حديث زائر وقاطن مدينة جدة. محمد فارسي الذي غيبه الموت قبل أيام عدة في فرنسا، كان يرى الفن ضرورة وأمراً مهما للتنمية، ورافداً ثقافياً لا غنى عنه، لاسيما أنه - وكما ذُكر- استقطب خلال عمله أمينا لمدينة جدة (1972 - 1984)- أهم نحاتي العالم آنذاك، ودعاهم إلى تصميم مجسمات ما زالت ضمن نطاق إعجاب الناظر، وغدا اسمه مرتبطاً بكل حديث عن أي تنمية تشهدها جدة، فما من شارع يمهد أو حديقة تنشأ، أو مجسم يوضع إلا وتذكر الألسن اسمه، كونه رسم خطاً نوعياً للتنمية، و مشى على خطاه من جاء بعده، ليترك خلفه ثقافة عمل فريدة صعبة من نوعها في إدارة المدن، على رغم تزامنها مع ظروف صعبة، واستطاع وباقتدار أن يُحدث أثراَ فكان أن سموه فنان جدة. قال أحد الأخوة المقيمين الذين عملوا مع الفارسي: «عملت 25 عاماً في أمانة جدة، وعاصرت أربعة أمناء، وجئت إلى بلدي السودان وعملت مسؤولاً رئيساً في ولاية الخرطوم، ولم أر في حياتي مسؤولاً في عالمنا العربي يعي ويعرف كيف تنمى المدن والخدمات المقدمة للمواطنين مثل محمد سعيد فارسي الذي أعطى جدة روحه وعلمه وصحته». وأضاف: «عملت بالقرب من فارسي ووجدته مفكراً وإدارياً وقائداً وذو روح أبوية وإنسانية وفناناً مرهفاً، يعرف مصلحة المواطن الفقير، ويعمل من أجله»، مبيناً في ثنايا حديثه عن الفقيد أنه ارتقى بمدينة جدة وحصيلتها الاقتصادية، ما جعلها المدينة الأولى عربياً، حيث نقلها من طائفة المدن الهامشية إلى مدينة عالمية تراثية، مشيراً إلى أن من يعرفون تنمية المدن يدركون أن فارسي هو عبقري تنمية المدن. وتحدث عنه الكاتب عبدالله مناع في كتابه «قصة الفن في جدة» بقوله: «تجاورت في قلبه وعقله الأضداد، فمن بوهيمية الفنان إلى دقة المعماري، ومن ميكاڤيلية السياسي إلى نبالة الشاعر، ومن صرامة العامل إلى دهاء القانوني، ومن القليل من القسوة إلى الكثير من الرقة مع شيء من الغموض في إطار من سيمفونية الحلم وصخب الواقع». الفقيد الفارسي امتلك الحماس والدافع، وتوافرت لديه البيئة المشجعة على ذلك، فكانت عوناً له إن يفعل ويُنجز، وقال عنه التشكيلي طلال الطخيس: «محمد سعيد فارسي باني جدة الحديثة كما أحببناها، وأصبحت عروس البحر الأحمر، ففي نظري كان مواطنا (عادياً) لديه رغبة ودافع وحماس وارادة وقدرة (يملكها الكثير)، ميزه أنه لم يجد جداراً من البيروقراطية، وتصادم الأولويات لم تمنعه تمنعه من تحويل حبه لواقع ثري بالفن والجمال، يستحق تسمية شارع باسمه». والعاشق دائماً ما يكون باذخ الاهتمام بمعشوقته، وإظهارها في ابهى حلة، وهذا م اكان من شأن فارسي مع عروس البحر الأحمر جدة. وقال الكاتب الإقتصادي جمال بنون: «جدة المدينة التي تُغلق أبوابها آخر الليل، وتفتح لزوارها عند الصباح، يعمل سكانها في صيد السمك واللولؤ وممارسة بعض الأنشطة التجارية الصغيرة، مساحتها محدودة وبيوتها القليلة المتراصة والمجاورة، استطاع الفارسي أن يعيد رسم هويتها، فتحرك في اتجاهات عجة، فنهج طريقة سريعة في توسعة الرقعة السكانية، فارتفع عدد سكانها إلى الضعف خلال فترة وجيزة، وألبسها الجمال، فعرفت في عهده المجسمات الجمالية في الميادين والطرقات، وبمشاركة فنانين ونحاتين وتشكيليين عالميين، حتى وصل عدد المجسمات في عهده ما بين الميادين والتقاطعات المرورية إلى نحو 600 مجسم، وتحولت المدينة التي كانت تعيش على صيد السمك وبعض الأنشطة إلى مدينة عالمية ووجهة السياح والزوار والحجاج وضيوف الرحمن». وأضاف: «يعد المهندس فارسي صاحب اللبنة الأولى لوضع اساس هذه المدينة في العهد السعودي لما حظي به من دعم من قيادات هذا البلد، ووجد أشخاصاَ يؤمنون برؤيته، وينفذون تصوره، رحمه الله واسكنه فسيح جناته، عاش خادماً لمدينة جدة ومحباً لها».
مشاركة :