لا يمكن فهم الحالة السياسية والعسكرية في اليمن إلا حين تُقرأ وفق سياق التعقيدات الوعرة لها، التي تشبه تضاريسها الجبلية، وتاريخها المتقلب على كثبان رمل متحركة. الجغرافيا والتاريخ قبل كل شيء مفتاحان أساسيان لفهم ما يجري في اليمن الآن، والتنبؤ بمستقبله الذي لن يكون أقل تعقيداً في حال التعاطي معه، خصوصاً من المجتمع الدولي والمنظمات الإنسانية والحقوقية، دون الاضطلاع بتفاصيل ما يجري على الأرض المحروثة اليوم بألغام ميليشيات الحوثي العقائدية وجرائمها المروعة تجاه أبناء اليمن بدعوى الحق الإلهي، وبسلوك الميليشيات الدموية الآيديولوجية التي تبدأ بتجنيد الأطفال، ولا تقف عند قصف البيوت، والاندساس بين المدنيين، وادعاء المظلومية متى ما تعاملت قوات الشرعية والتحالف ضدها بحزم، الذي عادة ينظر إليه من قبل المؤسسات الدولية بتحيّز مريب، وبالاكتفاء بعبارات باردة من قبيل «ممارسة ضبط النفس والامتناع عن أي أعمال تؤدي إلى مزيد من التصعيد».ما حدث في منطقة حجور، بمحافظة حجة (شمال غربي اليمن)، جريمة إنسانية تلامس توصيف «الإبادة الجماعية»، وتضاف إلى السجل الوحشي لميليشيات الحوثي العقائدية التي تمارس صلفها بدعوى «الحق الإلهي»، وهو سياق مهم يقودنا إلى أن المجتمع الدولي والدول الغربية تغفل عن الدوافع لهذه المنظومة الإرهابية بشكل متحّيز، فـ«أنصار الله» لا يختلفون عن «أنصار الخلافة الداعشيين».المجتمع الدولي بمنظماته الكبرى يعاني من إشكالية كبرى في قراءة حالة «العنف» المنظم، ويخطئ في توصيفه على أنه نزاع سياسي أو حرب أهلية. عنف التنظيمات والميليشيات الآيديولوجية بشقيها السني والشيعي من «داعش» و«القاعدة» وأخواتها إلى الحوثيين، هو عنف أقليات عقائدية لا يمكن أن تمارس الخطاب السياسي بشكل مراوغ وبراغماتي، لكنها تنجح لكونها مسنودة بصمت الأكثرية غير المسيسة، التي تعتقد أن إدانة العنف خيانة للذات، من جهة أخرى دخلت على الخط مجموعات منتفعة من العنف عبر استغلاله سياسياً، سواءً في تضخيم المسألة، أو تحويلها إلى صراع أممي، وهنا تدخل على الخط إشكالية التقاطع مع الخارج، استخبارات ودولاً وكيانات مركزية وجماعات مسلحة عابرة للقارات، كما رأينا في الكوادر الإيرانية وأخرى تابعة لـ«حزب الله» تقوم بتدريب ميليشيا الحوثيين على زرع الألغام، وتهريب الأسلحة، وإعادة تصنيع الصواريخ محلياً، إضافة إلى تكوين اقتصاديات «الميليشيا» عبر النهب والسلب وبيع المساعدات الإنسانية، وهي ممارسات موثقة يعلمها كل من يتابع الملف اليمني عن كثب.حجور اليمن ترزح تحت كارثة إنسانية لا يمكن السكوت عنها، فحسب تقارير المنظمات الإنسانية المستقلة، ومنها منظمة أهلية محلية في حجور، فإن حرب الإبادة خلفت أكثر من 60 قتيلاً، من ضمنهم الأطفال والشيوخ والنساء، وأكثر من 200 جريح جراء القصف العشوائي المتواصل، واحتلال أكثر من 800 منزل، وتدمير نحو 2000 مسكن، إضافة إلى حرق ما يزيد على 300 مزرعة، هذا عدا استهداف المساجد ودور التعليم والمرافق العامة في مديرية كُشر، حدث ذلك في غضون 6 أسابيع من الهجمات المكثفة بمعدات ثقيلة وصواريخ قصيرة المدى، ولولا أن هرعت القبائل إلى المقاومة، ثم أُسندت من قبل الشرعية والتحالف بالدعم لكانت المأساة متواصلة، وهو ما جعل الكثير من المنظمات الحقوقية المستقلة تعلن عن قرب وقوع كارثة إنسانية كبيرة.لماذا حجور؟ هو السؤال ذاته الذي تم طرحه سابقاً «لماذا تعز؟»، فالحوثيون يستلهمون سياسات ملالي طهران، وتجربة «حزب الله» اللبناني حذو القذة بالقذة، كما يقال، من خلال سياسة «الأرض المحروقة»، وهي في السياق العسكري تعني استهداف كل منطقة لا يمكن أن تنبت لهم أي جذور أو شعبية، لا على مستوى المكون القبائلي أو الحراك السياسي، فضلاً عن عناد الجغرافيا والتاريخ.منظمات حقوق الإنسان قبل يومين دعت المبعوث الأممي لليمن مارتن غريفيث إلى اتخاذ موقف، وطالبته بأن يغادر صمته ويراجع سياسته تجاه ميليشيا الحوثي التي ترتكب جرائم حرب وإبادة جماعية، لكن لم يحدث شيء حتى الآن، وبالأمس قتل قائد قبائل حجور أبو مسلم الزعكري، وقام «أنصار الله» بتفجير منزله واعتقال أفراد أسرته.الحصار على قبائل حجور بدأ منذ عدة شهور من خلال استحداث نقاط تفتيش في الطرق المؤدية للمديرية، واعتقال أبرز الشخصيات المؤثرة واغتيالها، ورغم ذلك رفضت القبائل ورجالاتها كل الإغراءات من ميليشيات الحوثيين للتحالف معها، وهو ما يعني تحويلها، حسب التعبير الشائع منذ صعود الميليشيا، إلى «متحوثة»، وهو تعبير يوصف به المساندون لميليشيا الحوثي لدوافع رغبوية من المال أو الخوف، أو بسبب تذبذب المواقف بعد الانكسارات العميقة في «حزب المؤتمر».منطقة حجور كانت إحدى أهم المناطق إبان ثورة الشباب 2011، وقبل ذلك كانت سداً منيعاً أمام توسع «الإمامة» وأبناء بدر الدين، وظلت مستهدفة منذ ذلك الوقت، فمحيطها جسر بين مرتفعات صنعاء يصلها بمناطق تهامة حجور الشام واليمن والأعلى والأسفل، لذلك تم استهدافها بهذه الوحشية، كما هي الحال مع تعز؛ العمق الثقافي والنضالي لكل الحراك السياسي في اليمن الحديث، وهكذا قدر الجغرافيا التي تصنع التاريخ، كما يبادلها قسوته فيصنع مأساة أهلها حين يعبرها «الانتهازيون»، لكنهم حتماً يرحلون.
مشاركة :