الشارقة: محمدو لحبيب مراقبة الله جل وعلا في السر والعلن، هي مقام عظيم ومنهج قويم، وهي الإحسان كما وُصف في الحديث النبوي الشريف، وقد تصل تلك المراقبة إلى درجة الندم الشديد على أي تفريط ماضٍ، والبكاء على تلك الحال بطريقة لا يفعلها إلا العارفون بالعظيم الذي يراقبونه، ويحرصون على رضاه ويخشونه، ويتقونه حق تقاته. أبو العباس بن عطاء أحد هؤلاء الذين منّ الله عليهم ببلوغ تلك المنزلة السامية التي تتجرد فيها النفس من أنانيتها، وتصل إلى مرتبة النفس اللوامة، ومما يُحكى عنه أنه أتته جماعة ذات مرة في صومعته التي اتخذها للعبادة، فوجودها مُبتلة، فسألوه عن ذلك، فقال: عرضت لي بعض الأحوال السابقة، فانتابني خجل وندم فجعلت أبكي حتى حصل ما ترون، فقيل له: كيف ذلك، فقال: «أمسكت في أيام الصبا حمامة كانت لأحدهم، ثم أعطيت صاحبها ألف درهم تعويضاً عن ذلك، والحال أن قلبي لم يطمئن لذلك، وأني وفيته حقه، فبكيت حين تذكرت ذلك». كان ابن عطاء أحد كبار تلامذة الجنيد، وأحد المتصوفة الذين علموا صحيح السنة والتزموا به، وكانت له طريقة مع القرآن الكريم، تقوم على تعظيمه، والالتزام بأمر الله بتدبره، فقد قرأه حتى وفاته سنة 309 هجرية، في ختمة واحدة، استمرت معه أربع عشرة سنة، وحين سُئل قبل أن يتوفى: كم تقرأ من القرآن كل يوم؟، وكان السائل فيما يبدو ينتظر أن يقول له ابن عطاء إنه يقرأه ويختمه كل يوم، لكنه فاجأه بإجابة تبين مكانة القراءة الخاصة، والتدبر الذي يتعامل به مع كتاب الله، فقال له: فيما سلف كنت أقرأ ختمة كل يوم، وأما الآن فمنذ أربع عشرة سنة أقرأ في ختمة واحدة، واليوم وصلت إلى سورة الأنفال. لقد كان ابن عطاء متدبراً وعاملاً بقول الله عز وجل في كتابه العزيز: «أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها»، وكان يحرص في قراءته للقرآن على التدبر والتفكر في معاني الآيات ودلالاتها وعظمتها، وهو ما جعله يقضي كل تلك المدة الآنفة الذكر في ختمة واحدة، وكأنه يعيش ليله ونهاره مع آي الذكر الحكيم، لا يبارحها إلا ليعود إليها، مستشعراً لذة الأنس بالله وبكلامه، ومحكم التنزيل. التوكل كان ابن عطاء متوكلاً على ربه حق التوكل، مُسلماً إليه قياده، مفوضاً إليه أمره، راضياً بقضائه وقدره، فلا يعترض على ما يصيبه؛ لأنه يعلم أن ثمة حكمة إلهية وراء ذلك، ومن القصص التي تُروى عنه في هذا السياق، أنه كان في سفر مع عشرة أبناء له، فاعترضتهم مجموعة من قطاع الطرق، وتغلبوا عليهم، وأمسكوا بهم جميعاً، وبدأوا يذبحون أبناءه واحداً تلو الآخر أمام عينيه، وهو يبتسم، ولا يتكلم، وحين بلغوا ابنه العاشر، استغرب ذلك الابن من صنيع أبيه، واحتد عليه قائلاً: ما أقل شفقتك، ذبحوا تسعة من أبنائك، وأنت تنظر مبتسماً، فرد عليه ابن عطاء قائلاً: «يا ولدي، وروحي، وقرة عيني، ماذا أصنع؟، إن من يصنع بنا هذا الأمر، قوي ونحن ضعفاء، وهو عليم بصير، يعلم ويرى ويقدر على الدفع عنا، فلما سمع قطاع الطرق منه هذا الكلام، ظهرت فيهم حالة اضطراب، فتركوه هو وابنه المتبقي، واعتذروا له، وأبدوا ندمهم، وقالوا له: لو أسمعتنا هذا الكلام من قبل، لما كنا نشتغل بقتلهم». لقد صبر ابن عطاء على ذلك الابتلاء العظيم، وفوض أمره لله، واشتغل بتأمل حكمته، والرضى بها، وهو مقام عظيم في الابتلاء وفي الصبر عليه. وقد ترك ابن عطاء كلمات وأقوالاً دالة، تختزل حكمته ومنهجه في التصوف، وفهمه لكثير من الأمور الحياتية، وهي في مجملها إشارات مفيدة جداً لكل السالكين طريق الحق، الساعين فيه. التزام وفي مجال الالتزام بالعمل بعد العلم والذي يعني الحكمة ويصدر عنها، وارتباط ذلك بالتدين الحقيقي، يقول ابن عطاء كذلك: «اطلب المرء في ميدان العلم، ثم في ميدان الحكمة، ثم في ميدان التوحيد، فإن لم تجده في تلك الميادين، فلا تطمئن على دينه؛ إذ لا دين له حينئذ». وفي مجال التوبة وصحتها، والبعد عن النفاق والرياء والعجب وكل أمراض القلوب التي تمنع الإنسان من التدرج في سبيل المعرفة الربانية والسلوك القويم لها، يذكر ابن عطاء أيضاً عدة مقولات تبين ذلك النهج، وتنير الدرب للسائرين فيه، ومن بينها مقولته: «أصحّ العقول عقل موافق للتوفيق، وشر الطاعات طاعة تفوح منها رائحة العُجب، وشر الذنوب ذنب يَستعقب التوبة». وقولته الأخرى: «بين العبد والحق ثلاثة أشياء: الاستعانة والجهد والأدب، فالاستعانة من العبد، والتقوية من الله، والجهد من العبد والتوفيق من الله، والأدب من العبد، وإعطاء الكرامة من الله». كان ابن عطاء من الحريصين على حسن الخُلق، وإبراز صلته بالعبادة الحقيقية لله، ومن ذلك ما روي عنه أنه سأل يوماً بعض أصحابه فقال لهم: «بمَ يرتفع العبد؟، فقال بعضهم بالمجاهدة، وقال آخرون بالمحاسبة مع النفس، وقال بعضهم الآخر ببذل المال، لكن ابن عطاء قال: ما ارتفع أحد إلا بحسن الخلق». يعد ابن عطاء رحمه الله أحد أعلام التصوف، وأحد الذين يجسدون الأخلاق الرفيعة والحكم العالية التي ألهمت وما زالت تلهم ملايين المسلمين حول العالم حتى اليوم.
مشاركة :