الحديث عن معاناة الإبداع في مطلع القصيدة كان أحد أبرز الملامح في شعر القدماء، فالقصيدة تنفيس عن مشاعر دفينة مُرهِقة، وعملية نظمها مُخاطرة عظيمة قد تكون نحتًا في صخور المعاني الصلبة، أو غوصًا في الأعماق الغامضة بحثًا عن أثمن الدرر وأبعدها عن أيدي الشعراء أصحاب النفس الطويل. ويذكر الدكتور سعد الصويان في سياق حديثه الممتع عن نظم القصيدة في كتاب (الصحراء العربية) أن "النظم يظل عملية ذهنية شاقة يمارسها الشاعر بوعي وإدراك ويبذل كثيرا من التروي والتأمل في نحت المعاني وترويض القوافي. فلا بد أن يكون أسلوب القصيدة ناصعًا مشرقًا ولكلماتها طلاوة ورونق ووقع في النفس جميل مؤثر، لذا يختار الشاعر النبطي كلماته وينظم أبياته بعناية وتدبر ويبذل جهدًا مضنيًا في التماس المعاني الصائبة والألفاظ المتخيرة. ولكي يظفر الشاعر بقصيدة جيدة ترضي جمهوره فإنه يعمد إلى تحبير كلامه وتجويده وتنقيح الأبيات وتثقيفها، يساعده على ذلك صدق الحس وصفاء الخاطر". ولم يكن الحديث عن القصيدة الجيدة بوصفها: دُرة ثمينة تحول دونها المخاطر والأمواج المتلاطمة، أو صخرة صلبة يتطلب نحتها جهدًا جبارًا مجرد زعم أو ادعاء لكسب تعاطف المتلقي أو الممدوح والحصول على ثمنٍ لها، بل كان حقيقة تتجلى في مستوى كثير من القصائد التي كان لها تأثير وشيوع واسع. ونلاحظ اليوم أن غياب الحديث عن معاناة الكتابة في مطالع القصائد يقابله تراجع واضح في مستوى الشعر، ولعل في هذا الغياب اعتراف لا إرادي من معظم الشعراء بغياب المعاناة وتراجع الجهد المبذول في تجويد القصيدة عن السابق، وأعتقد أن سبب هذا التراجع هو انشغال الشاعر بأمور هامشية على حساب انشغاله بقصيدته، فهو مشغول بتوثيق علاقته بالمتابعين وتهيئتهم لاستقبال إنتاجه الشعري، ومشغولٌ بانتقاد وضع الساحة الشعرية وتقويم مستوى الشعراء الآخرين، ومشغول بترويج اسمه ونشره في كل وسيلة إعلام أو وسيلة تواصل، ومشغولٌ أيضًا بكتابة أكبر عدد من الأبيات والمقطوعات القصيرة لتغطي صفحات ديوانه الجديد الذي سيوقعه في معرض الكتاب، وفي زحمة هذه المشاغل يصعب على الشاعر إيجاد وقت لنحت المعاني أو الغوص عليها أو ترويضها..! خيرًا يقول فهد المساعد: وين الفراق اللي لو أمشيه ما ألقاك؟ تعبت أدوّر درب ما ينتهي لك تذكر مكان أول لقا، خذني هناك بأنسى الليال اللي قضينا دخيلك لو تقدر الليلة تخليني أنساك حاول تساعدني، وما أنسى جميلك!
مشاركة :