"كل الشعوب تلد أجيالاً جديدة، إلا نحن نلد آباءنا وأجدادنا"، تُعبّر هذه المقولة الجميلة للشاعر غازي القصيبي -رحمه الله- كما أفهمها عن حقيقة لا يُمكن تجاهلها، وهي أن لدى كل واحد منّا رغبة قد يُصرح بها وقد يكتمها بأن يكون ولده نسخة مُطابقة له، وأن يسير على نهجه ويهتدي بهديه في جميع شؤون حياته، ولا شك في أن تحقُق هذه الرغبة –بالرغم من استحالته- يؤدي إلى نتيجة حتمية وهي تشابه أو تماثل جيل الأبناء مع أجيال الآباء والأجداد، وبالتالي العجز عن تقديم أي جديد يُذكر في شتى مجالات الحياة. على مُستوى الشعر يُمكن أن نجد في كثير من كتابات النُقاد القدماء تصريحاً بالرغبة في أن يولد شعراء يسيرون على نهج سابقيهم ويلتزمون بلغتهم وبجميع تقاليدهم في كتابة القصيدة، من أولئك النقاد على سبيل المثال ابن رشيق القيرواني الذي يقول في (العُمدة): "وللشعراء ألفاظ معروفة وأمثلة مألوفة لا ينبغي للشاعر أن يعدوها، ولا أن يستعمل غيرها، كما أن الكتّاب اصطلحوا على ألفاظ بأعيانها، سموها الكتابية لا يتجاوزونها إلى سواها"..! كلام ابن رشيق السابق تعبير صريح عن الرغبة في أن يلتزم الشعراء بالمألوف من الألفاظ وأن يسيروا على نهج أسلافهم، وهو أيضاً رفض واضح للتجديد في لغة الشعر. هذه الرغبة التي عبّر عنها ابن رشيق وغيره بوضوح وجدت وما تزال تجد تجاوباً من كثير من الشعراء، لذلك لا نستغرب أن نُقابل الكثير من الشعراء المتشابهين، ولا نستغرب أن نقرأ لشاعر شاب يعيش بيننا قصائد وأبيات لا تنتمي لهذا العصر لا من حيث اللغة ولا من حيث الفكر، بل هي أشبه ما تكون بالصدى لقصائد نُظمت قبل مئات السنين، وفي المُقابل لا يخلو كُل عصر من شعراء مبدعين يحلو لهم مُخالفة أقوال النقاد التي لا تتفق مع سُنن الحياة والخروج من دائرة المألوف على مستوى لغة القصيدة وصورها وبنائها. أعتقد أن التحديث في بعض جوانب القصيدة كاللغة أو الموضوعات أمر حتمي تفرضه طبيعة البيئة والمؤثرات الخارجية التي تُحيط بالشاعر، إذ نجد على سبيل المثال أن عصرنا الحاضر قد فرض على الشعراء التنافس على اختزال أفكارهم وصياغتها في أقل عدد ممكن من الكلمات، خلافاً للماضي القريب حين كان الشعراء يتنافسون على كتابة الملاحم والألفيات والمطولات الشعرية، إضافة لما فرضته طبيعة الحياة من تغير في القصيدة شكلاً ومضموناً نجد لدى عدد من الشعراء الشباب المبدعين وعياً بأهمية الاستفادة من التراث الشعري لأجدادهم مع ضرورة الاختلاف عنهم والتحديث في بناء القصيدة ومضامينها والخروج عن المألوف والسائد. أخيراً يقول محمد جارالله السهلي: فأول لقا .. بادلتك البسمه حتى سكنت بداخل ضلوعي وإن كان مالي فالهوى قسمه فآخر لقا .. بادلني دموعي
مشاركة :