القاهرة: الخليج منذ أن أصبح «أرنولد توينبي» (14 إبريل 1889- 22 أكتوبر 1975) مديراً للمعهد الملكي للشؤون الخارجية في بريطانيا في الفترة من عام 1925 إلى 1955؛ أخذ يقوم بأسفار واسعة النطاق في بلاد متعددة، اعترفت بفضله ووجهت إليه الدعوة لإلقاء محاضرات فيها، وكانت مناقشات توينبي المشهورة مع أصحاب الاتجاهات الصهيونية وردوده الحاسمة على مزاعمهم بشأن فلسطين، من أشهر الوقائع التي دارت خلال هذه الرحلات، والتي أصبحت حديث الأوساط العلمية في العالم أجمع آنذاك. اكتسب توينبي مكانته من حيث هو مؤرخ وفيلسوف من كتاباته المهمة: الفكر التاريخي عند اليونان 1924، العالم بعد مؤتمر الصلح 1925، المدنية في الميزان 1948، الحرب والمدنية 1951، كما أشرف على تحرير حولية استعراض الشؤون الدولية من عام 1920 إلى عام 1938 على أن أعظم مؤلفات توينبي على الإطلاق هو ذلك المؤلف الضخم «دراسة في التاريخ» وهو يتألف من عشرة مجلدات، ظهرت الستة الأولى منها فيما بين عامي 1934 و1939 ثم ظهرت الأربعة الأخيرة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية حتى العام 1954، أي أن الكتاب استغرق إعداده للنشر عشرين عاماً وكان هذا العمل هو الذي أذاع شهرة توينبي وجعله في الصف الأول من مؤرخي ومفكري القرن العشرين. في هذا الكتاب يعرض توينبي عوامل مدنيات الإنسان وسقوطها بصورة شاملة ومجملة في آن واحد، وهو يميز بين إحدى وعشرين مدنية، خمس منها حواضر، والأخريات اندثرت ولم تبق إلا آثارها التاريخية، وهو يؤكد أن هذه المدنيات تسير كلها في نشأتها وازدهارها واضمحلالها، تبعاً لنمط واحد لا يتغير، فقد يختلف الوقت الذي يستغرقه نشوء حضارة أو نموها أو انحلالها، فيطول حيناً ويقصر حيناً آخر، غير أن الصورة العامة تظل على ما هي عليه، والتعاقب حتمي لا مفر منه، وأسباب التحول من حال إلى أخرى هي في أساسها واحدة، وهكذا تتحكم الحتمية في التعاقب الزمني، وتولد المجتمعات وتزدهر ثم تموت بانتظام لا يخيب. كان توينبي يدرك أن هناك نموذجين للمؤرخ: نموذج المؤرخ الباحث المدقق في التفاصيل، ونموذج المؤرخ الفيلسوف، ومن المؤكد أنه آثر النموذج الثاني وليس معنى ذلك أنه لم يكن باحثاً مدققاً، وإنما معناه أنه كان على استعداد في بعض الأحيان للتضحية ببعض التفاصيل في سبيل الصورة الكلية الشاملة. ضمن جولات توينبي في العالم جاءت زيارته إلى مصر في شهر إبريل سنة 1964 وألقى خلالها أربع محاضرات، الأولى كانت بعنوان «استعراض لتاريخ العالم في نصف القرن الأخير» والثانية «أسلوب الحياة الغربي في الميزان» والثالثة «مشكلة الغذاء والسكان في العالم» والرابعة «الشرق الأوسط والسياسة العالمية». في المحاضرة الأولى بجامعة القاهرة استعرض توينبي تاريخ العالم في نصف القرن الأخير، وتحدث عن أحداث عاصرها منذ أن كان في الخامسة والعشرين من عمره. وفي المحاضرة الثانية بجامعة عين شمس وضع توينبي أسلوب الحياة الغربي في الميزان ليستخلص مزاياه وعيوبه، وكأنه بذلك يخاطب أبناء الشرق، الذين أخذوا من الحضارة الغربية بنصيب غير قليل، وبهرتهم هذه الحضارة، وافتتنت بها نفوسهم، فيقول لهم «لا تظنوا أن هذه الحضارة الغربية خير كلها، فلها عيوبها، التي لا يجد أبناؤها أنفسهم مفراً من الاعتراف بها». وتعالج المحاضرة الثالثة موضوع السكان ومشكلة الغذاء في العالم وقد حرص توينبي على أن ينبه إلى خطورة الزيادة المطّردة في عدد سكان العالم. ويتناول توينبي في المحاضرة الرابعة موضوعاً يشغل أكبر قدر من اهتمامنا في العالم العربي وهو مركز الشرق الأوسط في السياسة العالمية وأبعاد القضية الفلسطينية، والاتجاه العام الذي يسير فيه توينبي في هذه المحاضرة تقدميُّ تماماً، وموقفه من القضية الفلسطينية معروف في العالم أجمع، ويحدد توينبي في هذه المحاضرة ثلاثة مفاتيح يعتقد أنها ستؤدي إلى حل المشكلة الفلسطينية، أولها: القوة المتزايدة التي يمكن أن تكسبها البلاد العربية إذا توحدت، ثانيها: موقف الطوائف اليهودية في العالم الغربي وأمريكا بوجه خاص، ويرى أن تلك الصلة بين يهود البلاد الغربية ويهود إسرائيل سوف تضعف، والمفتاح الثالث لحل المشكلة الفلسطينية هو موقف اليهود الشرقيين في إسرائيل نفسها، فهو يرى أن اليهود الشرقيين أقدر على التفاهم مع البلاد العربية من اليهود الغربيين، والخلاصة أن موقف توينبي من القضية الفلسطينية سليمٌ تماماً من الوجهة العلمية وهو متعاطف تماماً مع وجهة نظر العرب.
مشاركة :