انتهت عملية الابتعاد عن استخدام الدولار محليا في معظم الأسواق الصاعدة بعد الأزمة العالمية، ولكن ليس في بيرو، وانتشرت "الدولرة"، أي الاستعاضة جزئيا أو كليا عن العملة المحلية للبلد بعملة أجنبية، بشكل كبير في سبعينيات القرن الماضي في أمريكا اللاتينية، عندما سلب التضخم المرتفع والمفرط من تلك العملات المحلية أدوارها التقليدية كوسيط مستقر لتبادل القيمة وتخزينها. وقد بدأت الأسر والشركات في هذه البلدان باستخدام العملات الأجنبية -الدولار عادة- للادخار وشراء وبيع الأشياء الكبيرة مثل العقارات. وانتشرت الظاهرة في نهاية المطاف فيما يتجاوز أمريكا اللاتينية بكثير لتصبح سمة عمومية للقطاعات المالية في عديد من اقتصادات الأسواق الصاعدة. وفي أوائل تسعينيات القرن الماضي، بدأت كميات كبيرة من الأصول والالتزامات المقومة بالدولار تتراكم بشكل معتاد لدى النظم المصرفية في تركيا وعديد من الاقتصادات في إفريقيا وآسيا وأوروبا الشرقية. وشكل احتمال أن تتجاوز الالتزامات المقومة بالدولار للبنوك بكثير أصولها المقومة بالدولار خطرا كبيرا على النظم المالية في حالة تخفيض قيمة العملة أو انخفاضها بشكل مفاجئ. وشعر المنظمون وصناع السياسات بالقلق، وكانوا على حق كما اتضح، نظرا لأن الدولارات ستكون أغلى بكثير بعد تخفيض قيمة العملة أو انخفاضها، وقد يؤدي الاختلال بين الأصول المقومة بالدولار إلى خسائر كبيرة ويسبب عدم الاستقرار المالي النظامي. وكان عدم التوافق هذا بين الأصول والالتزامات هو السبب في عدد من أخطر الأزمات المالية في اقتصادات الأسواق الصاعدة خلال منتصف التسعينيات وأوائل الألفينيات، بما في ذلك تركيا في عام 1994، والأرجنتين في عام 1995 وروسيا في عام 1998 ومرة أخرى في الأرجنتين في عام 2001. وقد بدأت "الدولرة" تزول في السنوات الأولى من هذا القرن مع تحسن الظروف الاقتصادية في عديد من اقتصادات الأسواق الصاعدة. وقد ساعد تحسن معدلات التبادل التجاري، وأسعار الصرف الأكثر مرونة، والسياسات الاقتصادية الأفضل، بما في ذلك استهداف التضخم ومزيد من الانضباط المالي، على إبقاء التضخم منخفضا والحد من مخاطر التخفيضات المفاجئة في أسعار عملات عديد من هذه الاقتصادات. غير أنه في السنوات الأخيرة، أدت الانخفاضات الكبيرة في أسعار العملات المصحوبة بتوقعات تضخمية بغير ركيزة ثابتة وزيادة الديون المقومة بالدولار على الشركات، إلى تقليل احتمال الاستمرار في الابتعاد عن الدولار، وهو ما يحدث الآن فيما يبدو. وتبين النظرة الواسعة على البيانات الدولية منذ الأزمة المالية العالمية أن التخلي عن "الدولرة" توقف بل ربما يكون قد انعكس في عديد من بلدان الأسواق الصاعدة. ولكن هناك استثناءات ملحوظة ظهرت وبالتحديد في محل ميلاد "الدولرة" المالية المعاصرة، أي في أمريكا اللاتينية التي استمر فيها الابتعاد عن الدولار. ونتناول تجربة بيرو بالتفصيل ونستخلص بعض الدروس الرئيسة بشأن السياسات، التي قد تكون ذات صلة بعديد من البلدان الأخرى. خلص بحث تناول 28 اقتصادا من اقتصادات الأسواق الصاعدة خلال آخر 15 عاما إلى وجود اتجاه كبير إلى حد ما في "الدولرة" المالية في أوروبا وأمريكا اللاتينية، ولكن كان الاتجاه بسيطا نسبيا في آسيا وبقية العالم. وهناك اتجاهان مشتركان ومتباينان. الاتجاه الأول هو التراجع المستمر "للدولرة"، الودائع المصرفية بالدولار أو اليورو كنسبة مئوية من إجمالي الودائع، منذ بداية القرن حتى ما قبل الأزمة المالية العالمية في عام2007. والاتجاه الثاني هو زيادة "الدولرة" في بلدان أوروبا الصاعدة والتراجع عن التخلي عن "الدولرة" في أمريكا اللاتينية بدءا من عام 2012. ومع ذلك، فإن المتوسطات الإقليمية تحجب التباينات الكبيرة بين البلدان، وتكشف بعض هذه الاختلافات، للبلدان قبل الأزمة المالية العالمية وبعدها، وتظهر البلدان التي شهدت زيادة في "الدولرة" المالية فوق الخط 45 درجة؛ فيما تظهر البلدان التي شهدت انخفاضا تحت هذا الخط، وتظهر معظم البلدان تحت الخط، ما يعني أن التخلي عن "الدولرة" الذي حدث بعد الأزمة مباشرة لا يزال يتجاوز أي انعكاس حدث بعد عام 2012. وإضافة إلى ذلك، فعلى الرغم من وجود تغير طفيف في مستوى التخلي عن "الدولرة"، أو انتشاره في أوروبا وآسيا وبقية العالم في السنوات السبع السابقة لعام 2007، والفترة التي تلت الأزمة المالية ــ من 2010 إلى 2015 ــ فإن هذا الأمر لا ينطبق على أمريكا اللاتينية. فقد استمر التخلي عن "الدولرة" فيها في السنوات اللاحقة للأزمة المالية العالمية، ويرجع ذلك أساسا إلى التخلي عن "الدولرة" المستمر والكبير في باراجواي وبيرو وأوروجواي. وكان لدى هذه البلدان الثلاثة مستويات عالية من "الدولرة" قبل الألفيات وشهدت عمليات ملحوظة من التخلي عن "الدولرة" في الفترة السابقة للأزمة المالية. وسنتناول بالدراسة تجربة بيرو، حيث كانت وتيرة التخلي عن "الدولرة" المالية جديرة بالملاحظة. كانت مستويات الدولة مرتفعة في بيرو في تسعينيات القرن الماضي، ولم تتجاوزها إلا مستويات "الدولرة" في بلدان مثل الإكوادور والسلفادور اللتين استعاضتا رسميا عن عملتهما المحلية بالدولار. كان نحو 85 في المائة من الودائع المصرفية و80 من القروض المصرفية في بيرو بحلول أواخر التسعينيات بالدولار. وعلى الرغم من أن الودائع المصرفية الدولارية كانت دائما أعلى من القروض المصرفية، فقد أظهر هذان النوعان من "الدولرة" اتجاهات مماثلة حتى عام 2000 تقريبا. وبعدئذ، سارت عملية التخلي عن "الدولرة" بسرعة مذهلة. فبحلول عام 2012، انخفضت الودائع المصرفية الدولارية إلى دون 50 في المائة والقروض المقومة بالدولار إلى دون 45 في المائة. واستمرت "دولرة" القروض في الانخفاض ووصلت إلى 30 في المائة بحلول نهاية عام 2015، على الرغم من أن الودائع الدولارية زادت إلى حد ما ... (يتبع).
مشاركة :