« أيها القارئ لقد حان لسفينتك التي تتقاذفها الأمواج أن نجد مرفأ، أيْ ميناء أكثر أمانا من مكتبة كبيرة ؟.. الروايات العشر التي تبخرت بين يديك قد تكون موجودة بها» (إيتالو كالفينو) في هذا الوقت الذي يستولي فيه العمل السردي على المقدمة سابقا غيره من مجالات وأنواع الأدب الأخرى، حيث تحتل الرواية ما يشبه الصدارة منه لكونها تعتمد على الخيال والتخيل، ويضاف إلى ذلك الانفساح في ميدانه الذي يتسع حسب قدرة الكاتب على العطاء الممزوج بالتجارب والواقع مع التخيل، حيث تكون الميادين فسيحة تلحق بميادين أفسح وأرحب منها كلما دعت الحاجة هي تضيف إلى العمل سواء في الشكل أو المضمون، فلهذه السعة الحرة التي تتبع مقدرة الكاتب سحرها في جذب الكثيرين من المعطين والمتلقين، فهذا التوازن جعل السرد ليس من اليوم الذي كثر فيه، ولكن من الزمن القديم محل قبول لدى الإنسان الذي جبل على السماع للقص والأساطير قديما، والقراءة في الوقت الراهن، ففي السماع لسرد القصص متعة، وللقراءة في لسرد متعة أيضا، وبحسب ما توفر في البيئتين الماضية / الحاضرة كان للسرد مكانته التي تميز بها. البراعة في هندسة العمل السردي لا تتأتى إلى بعد جهد شاق وبقدر الموهبة أخذاً وعطاءً، والتنوع في الاتكاء على المصادر التي تكفل الثقافة وتتكفل باستيعابها عند من يريد أن يقدم عملا في هذا المجال، حيث يطلع مستفيدا من تجارب الآخرين لكي يتفرد بتجاربه الخاصة التي تتكون من ركام التنوعات في الاطلاع والمشاهدات ومايجيء من الممارسات التي تكون في تمازجها حالة خاصة بالذات التي قدرت على الجميع/ التجميع بينها بمقادير قياسية بإمكانها العطاء بشكل مقنع. الكاتب الإيطالي إيتالو كالفينو من النوع الذي تشكل من تمازج ثقافي بين تنوعات عدة جعل منها خلطة سرية/سحرية تمثلت على إبداعات تسامت حتى صارت محط أنظار المبدعين والمتلقين على السواء، لكونه خرج عن مسارت معروفة عدة، وتجاوز أجواء مجهولة، ورسم بأدوات بدائية مع أدوات حديثة وأحدث، سرده لواقع وخيال وفلسفة ورياضيات كيماوي/سيكولوجي، تاريخي /انثروبيلوجي، لغة /دين، وكل ما يندرج تحت مسمى ثقافة توافيه في أعماله السردية ألا ماندر، «لو أن مسافراً في ليلة شتاء» رواية تعطي الصورة التي لا تجانب الحقيقة عن كالفينو كمدع متفرد /متميز، حيث قارئ -شخصية الرواية الرئيس- مولع بالقراءة في الروايات يحصل على رواية ويقرأ بنهم، وفي حميِّا انسجامه مع القراءة تفاجؤه صفحات بيضاء وبعدها يختل السياق السردي بتبدل الأسماء والموضوع، فيصر على أن يبحث عن الرواية الكاملة لأنه شغف بما قرأ ويريد أن يكملها ليعرف النهاية. القارئ كاتب/ راوٍ.. كيف اجتمعت الصفات الثلاث في واحد؟! تكون إجابة كالفينو الذي حشر نفسه ضمن شخصية الرواية كأنا /هو في الفصل الأول ليقول:»إني على وشك قراءة الرواية الجديدة لإيتالو كالفينو -لو أن مسافراً في ليلة شتاء- استرخ.. ركز.. أبعد عنك الأفكار الأخرى. دع العالم حولك يتبدد في اللا شيء، من الأفضل غلق الباب فهدير التلفاز لا يهدأ في الغرفة المجاورة قلها فوراً للآخرين: لا لا أريد مشاهدة التلفاز، ارفع صوتك وإلا لن يسمعوك: إنني أقرأ لا أريد الإزعاج لعهم يسمعوك.. صح بهم: إنني أشرع في قراءة الرواية الجديدة لإيتالو كالفينو».
مشاركة :