(مفهوم الفضيلة) التوسط وفق منظور الشريعة الإسلامية مخالف لما جاء به أرسطو: ذكرنا سابقًا أن أرسطو يرى الفضيلة الأخلاقية تكمن في تحاشي التطرف في السلوك وإيجاد الحد الوسط بين طرفين، أي أنها وسط بين رذيلتين مذمومتين، وضربنا على ذلك مثالاً: بأن فضيلة الشجاعة هي الحد الوسط بين رذيلة الجبن من طرف ورذيلة التهور من الطرف الآخر، وأن الفضيلة هي التي تحقق السعادة للفرد والمجتمع وهذا هو العدل. وقد انتقد عدد من المفكرين الإسلاميين معيار الوسطية التي أخذ بها أرسطو وكان لهم في ذلك العديد من الدلائل والحجج، نبرز أهمهما: إنه جعل منها نظرية عامة في تحديد الفضائل، وهذا التعميم غير صحيح، لأن هنالك من الفضائل ما ليس وسطياً، فالصدق: فهو لا يقع بين طرفين، وإنما يقابله طرف واحد وهو الكذب. وكذلك الأمانة: فهي لا تقع بين طرفين، وإنما يقابلها طرف مذموم واحد وهو الخيانة. وكذلك الوفاء بالوعد والعهد، لا يقع بين طرفين مذمومين وإنما الذي يقابله واحد هو الغدر والنكث. إن نظرية أرسطو جعلت المعيار في تحديد الفضائل مرده إلى التوسط وهو أمر نسبي، يختلف باختلاف نظرة الأشخاص إليه، وأما في الإسلام فالمرجع في تحديد الفضائل هو الشرع وليس متروكاً لأهواء الناس، ذلك أن مرجعية الإسلام هي الوحي وليس لأراء وأهواء الناس ووسطية الإسلام في الأخلاق كما في غيرها هي جعل شرعي، كما جاء في سورة البقرة «وكذلك جعلناكم أمة وسطًا». وعليه فإذا كانت وسطية أرسطو ليس لها مرجع تستند إليه إلا العقل فإن وسطية الإسلام وفق وجهة النظر هذه، تستند إلى الشرع والعقل معًا، والشرع هو الحاكم على العقل، وهو الذي يقيم مساره، ويصوب إختياره. قال الإمام الشاطبي: «والتوسط يعرف بالشرع، وقد يعرف بالعوائد وما يشهد به معظم العقلاء، كما في الإسراف والإقتار في النفقات».. عليه إن القول بعدم صحة فكرة معينة لا يعني القول بصحة أقوال من انتقدها، فحتى الذين تمسكوا بحكم النص على العقل، والذين حرموا فكرة المعتزلة ومقولتهم بأن: «كل ما وافق العقل أخذنا به وما لم يوافق أولناه بما يوافق العقل»، نجدهم وعند الحديث عن شروط الحاكم في الإسلام قد أخذوا بأقوال عقلية وفسروا النصوص الشرعية بتفسيرات يتطلبها الواقع، فلا يخفاكم أنه من شروط الحاكم في الإسلام النسب القرشي، لإجماع الصحابة يوم السقيفة على ذلك واحتجت قريش على الأنصار - لما هموا يومئذ ببيعة سعد بن عبادة وقالوا: «منا أمير ومنكم أمير»، بقوله (ص) «الأئمة من قريش»، وثبت أيضا في الصحيح: «لا يزال هذا الأمر في هذا الحي من قريش»، وأمثال هذه الأدلة كثيرة. إلا أنه لما ضعف أمر قريش وتلاشت عصبيتهم، وانتقلت الخلافة إلى غيرهم وقع العديد من المحققين والعلماء في مأزق، فهذا الشرط أجمع عليه علماء المسلمين وفقهائهم الأوائل حتى قال الإمام مالك: «الأئمة من قريش ما اجتمع اثنان من الناس»، وأخذوا بمحاولة تأويل النصوص والذهاب بها إلى ما لا تذهب إليه، ونفوا اشتراط القرشية مستندين ومعولين على ظواهر مثل قوله (ص): «اسمعوا وأطيعوا وإن ولي عليكم عبد حبشي ذو زبيبة»، وهذا كما يقول ابن خلدون في مقدمته لا تقوم به حجة في ذلك: «فإنه خرج مخرج التمثيل والفرض للمبالغة في إيجاب السمع والطاعة». ومن القائلين بنفي اشتراط القرشية القاضي أبو بكر الباقلاني، لما أدرك ما عليه عصبية قريش، من التلاشي والاضمحلال واستبداد ملوك العجم على الخلفاء فأسقط شرط القرشية.
مشاركة :