لعل الحديث الأكثر سخونة في الشأن المحلي ،بعد قضية اقتحام مقام النبي هارون من قبل عدد من الإسرائيليين، هو تعديل قانوني التعليم العالي والجامعات الأردنية،حيث تم هذا التعديل على عجل وسبقه تهيئة الرأي العام من قبل بعض القوى والمحاور في التعليم العالي ،ومن المتوقع أن يتبع هذا التعديل إجراء تغييرات في مواقع رئاسات عدد معتبر من الجامعات الرسمية التي لم يمضي على تعيينها سوى عام ونيف.من جانب آخر فإن مجالس أمناء الجامعات الرسمية ستشهد أيضا تغييرات كبيرة تطال رؤساء وأعضاء كثيرا من هذه المجالس.الملفت أن البرلمان الذي صادق على القوانين الناظمة لشؤون التعليم العالي صادق أيضا على هذه التعديلات المستعجلة.ما دفعني للكتابة في معايير اختيار رؤساء الجامعات الرسمية هي حالة الضبابية وعدم الوضوح في مقاصد الدولة وما ينبثق عنها من أسس يتم اعتمادها لاختيار رؤساء الجامعات ورؤساء وأعضاء مجالس الأمناء. السؤال الذي يبرز في ذهن عدد كبير من العاملين في القطاع الأكاديمي هو هل الدولة تريد حقا رؤساء جامعات أكفاء! وإذا كان الأمر كذلك فما المقصود بأكفاء؟.هل المقصود أن يكون رئيس الجامعة لديه عدد كبير من الأبحاث المنشورة في مجلات عالمية ذات معامل تأثير كبير(High Impact factor) فنحن والحالة هذه نبحث عن باحث كفؤ وليس رئيس جامعة فما الذي سيفعله رئيس الجامعة بأبحاثه بعد أن يتم اختياره ويبدأ بممارسة عمله وسط جداول أعمال يومية مزدحمة، وأكداس من البريد الذي يحتاج إلى توقيع ،ورئاسة وعضوية مجالس ولجان متعددة،ورعاية فعاليات جامعية متكررة؟.وما علاقة عدد المشاريع الدولية التي انخرط بها المترشح لرئاسة الجامعة بكفاءة رئيس الجامعة! فهو بالمحصلة انخراط في مشاريع دولية لها علاقة بتخصصه وطبيعة هذا التخصص في كثير من الأحيان هي التي تلعب دور في عدد المشاريع البحثية الدولية التي انخرط بها الباحث.وعليه فإن المتخصصين في الحقول العلمية يمكن أن يستفيدوا من هذا المتطلب أكثر من نظرائهم في الحقول الإنسانية.في المجمل فإن اعتماد هذا المعيار يصبح عديم الفائدة لإغراض اختيار رئيس جامعة ليس لديه الوقت لا للبحث العلمي ولا للانخراط في المشاريع البحثية الدولية ولا غيرها.أما إذا كان المقصود بكفاءة المترشح لرئاسة جامعة رسمية أن يكون قد تدرج بالمواقع الأكاديمية، وملم بشؤون التعليم الجامعي فإننا نكون في هذه الحالة نبحث عن خبير وليس رئيسا لجامعة. أخيرا فإننا إذا كنا نبحث عن شخص مقبول من المجتمع المحلي أو العاملين في الجامعات فإننا نبحث هنا عن "شيخا" أو زعيما أكثر من رئيس جامعة، وقد عانت بعض الجامعات من أمثال هؤلاء الرؤساء الذين كانوا يعلنون أنهم لا يستطيعون إلا أن يرضوا جميع من قصدهم ،لا بل فقد استدعى أحد هؤلاء الرؤساء عشية تسلمه لموقعه أحد نوابه وأخبره أنه عشائري "ولا يحب أن يرد أحدا يقصده بخدمة" .اختيار رئيس الجامعة والمعايير التي نضعها لتنظيم هذا الاختيار يعتمد على ماذا تريد الدولة من رئيس الجامعة، ومن هو الرئيس الذي تريد؟هل تريد رئيس خبير ،أم رئيس بيروقراطي ،أم زعيم سياسي، أم مدير تنفيذي يسير الجامعة ويحافظ على استقرارها وهدوئها ؟ كل ما أشير له من معايير لا تضمن انتقاء واختيار رئيس جامعة "قائد"يسير في الجامعة نحو التطور، ويرتاد آفاقا جديدة، ويحلم في نومه ويقظته بالأفكار الخلاقة التي يمكن أن ترتقي بالمؤسسة الجامعية.فلا عدد البحوث،ولا براءة الاختراع ،ولا العشائرية والمناطقية ،ولا عدد المشاريع البحثية الدولية ،ولا الدعم السياسي يمكن أن يخلق قيادة لجامعة.القدرات القيادية قضية محورية والدليل على ذلك أن بعض الدول المتقدمة يمكن أن تختار شخص لا يحمل مؤهل دكتوراه لقيادة الجامعة بنجاح ويسهم في رفعتها بشكل ملموس.هنا ينبغي أن أعترف أن هناك قضية جدلية في معايير اختيار القيادات، ليس فقط في الجامعات، ولكن في مؤسسات الدولة المختلفة مثل المدراء والأمناء العامين للوزارات والهيئات والمراكز الهامة مثل مركز حقوق الإنسان وغيره.رئيس وزراء سابق حدثني عن ذلك وأبدى ملاحظة جديرة بالقراءة والتمعن عندما قال بأن تجربة الحكومات الأردنية في اعتماد معايير المفاضلة والمقابلات والتنافس على المواقع القيادية في الدولة لم تفضي إلى النجاح الذي كنا نتوقعه ،لا بل فإن هذا الأسلوب أظهر عدم كفاءة في إفراز القيادات المحترفة في الوزارات والدوائر والجامعات.حسب رأي دولته فقد كان في السابق يتم اختيار الأمين العام أو المدير العام بقرار من مجلس الوزراء وبترشيح من الوزير ،أو تقدير واجتهاد من رئيس الوزراء وبدون اعتماد أي مفاضلة أو تنافس ومقابلات ،وقد كانت نسبة النجاح في الاختيار تتراوح بين %70-80% ،بمعنى أن من بين عشر قيادات تم اختيارها بهذا الأسلوب التقديري كان هناك اختيارين أو ثلاثة فاشلة فقط في حين أن المفاضلة والتنافس المعمول به حاليا تفضي إلى نسب معكوسة تماما ونسبة الفشل تتراوح بين %60-70%. ونحن هنا نعتقد بأن المشكلة ليس في اعتماد أسس المفاضلة فهي طريقة تفسح المجال للناس للتقدم للوظيفة، وتنسجم مع القيم الديمقراطية والمساواة والشفافية.المشكلة نعتقد في المعايير المعتمدة أولا إذ يجب على الدولة أن تحدد تماما مواصفات القيادة التي تريد سواء أمين عام أو مدير عام أو رئيس جامعة ثم عليها أن تترجم هذه المواصفات إلى معايير وأسس تعتمد للاختيار.فإذا كان المطلوب شخص سياسي، أو له امتداد عشائري ،أو مدير تنفيذي ،أو قائد لجامعة فإن هذه المعايير ينبغي أن تنسجم مع هذه المقاصد. القضية الثانية هي أن المشكلة تكمن ليس في المواصفات بقدر ما تكمن في التنفيذ إذ أن العبرة في تطبيق المعايير وعدم تطويعها وليها لتناسب أشخاص متفق عليهم مسبقا ،حيث يترتب على ذلك مفاضلة واختيار على أسس غير تلك المعلنة ،وهذا الاختيار قد يبدوا قانوني وأصولي من حيث تصويت اللجان والمجالس ولكنه اختيار استند إلى اعتبارات لا تخدم المصلحة العامة.في النهاية ما زلنا نعتقد بأن أسلوب المفاضلة هو الأسلوب الأهم والأكثر ديمقراطية وإنسانية، وأن المشكلة تكمن في غياب وعدم وضوح مقاصد ومعايير الدولة في اختيار القيادات الجامعية والإدارية.كما أن ضبابية مفهوم الدولة لمتطلب "القدرات القيادية" للمرشحين لشغل الوظائف القيادية تجعل الاختيار اجتهادي وتقديري وفيه مساحة كبيرة للشخصنة ،والتسييس، وسوء التقدير.المأمول من وزير التعليم العالي والبحث العلمي أن يضع هذه الاعتبارات القيادية محل اهتمام عند الانخراط في تعيين رؤساء الجامعات ومجالس الأمناء مما سيترك أثر تستذكره الأجيال القادمة التي ستتولى مسؤولية قيادة دفة الجامعات.
مشاركة :