المثقف والنرجسية!

  • 9/14/2019
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

ان مصطلح النرجسية دقيق وشائك، وحتى وقتنا الحاضر لم يستطع عالم تحديده في تعريف محدد واضح، فحتى الآن ظهرت عدة تعريفات له. يقال ان النرجسية هي حب الذات وهي سمة للشخصية لدى جميع الافراد ولكن بدرجات متباينة؛ فمنهم من تكون نرجسيته واضحة، ومنهم من يمتلكها بدرجات قليلة، فالفرق هنا في الدرجة وليس في النوع. في بحثها «النرجسية وعشق الذات»، تشير الباحثة سهام شباط إلى ان الشخصية النرجسية تشعر بالعظمة وحب الذات وبأنها شخصية نادرة الوجود وانها نوع فريد لم يخلق مثله في العالم، لا يفهمها الا نوع خاص من الناس ينتظر الاحترام والتقدير الخاص لشخصه وسلوكه وافعاله من قبل الآخرين، شخص استغلالي، مستفز ابتزازي، وصولي يستفيد من مزايا الآخرين ليرتفع على اكتافهم، غيور، منظر من الدرجة الاولى، يتكلم عن امجاده واعماله وافكاره دون ان يطلب منه احد، معتز بشكله وجماله واناقته، مريض بجنون العظمة في كل ما يفعل، متمركز حول الذات، يستميت للحصول على المنافع لتحقيق أهدافه الشخصية، متطرف في افكاره لدرجة الخطورة؛ طبعًا لمصلحته الذاتية «أنا وبعدي الطوفان»، وعند الحديث عن المثقفين والنرجسية لا نبالغ اذا قلنا ان تضخم «الأنا» أزمة المثقف الحقيقية، وهو ما يتوقف عنده الباحث طاهر الزارعي وغيره من الباحثين والمهتمين. فالمثقف الواعي في منظوره - حسب ما نشر في احد المواقع - هو الذي يؤسس له هوية تستحوذ على اهتمام الآخر، متجاوزاً حالات كثيرة من النرجسية التي تعتبر سلوكًا استعلائيًا قلما ينهض بالمفهوم الحقيقي للثقافة الحية، لان الثقافة ارشيف مدلولي لذات المثقف تتمخض من خلال مفاهيمه السلوكية المتأصلة في ذاكرته كإرث وجودي يدلل على انصهاره في واقع المجتمع، لتأسيس مرحلة نموذجية لدى كل من يعتبر الثقافة صورةً مغايرةً لفكر المثقفين. تضخم «الأنا» للمثقف سلوك نفسي مزمن له مسبباته وعوارضه الشخصية التي ابتلت به، تأخذ حاجتها من المديح والاعجاب وترفض كل من يحاول نقدها او مزاحمتها ما يشكل انعكاساً سلبياً يجرد الثقافة من ابسط حقوقها ومن ادق شموليتها، وفي اعتقاده ان هذا نتاج حالة متورمة - ان صح التعبير - فرضتها ذاكرة اقصائية مورست بحق من يتصف بهذا المفهوم، ان «شخصية الأنا المتضخمة» تأخذ سلوكها من نسقية الشخصية النرجسية بكل تعاليها، ومن الشخصية التسلطية بانفعالها واندفاعها، وتأخذه ايضاً من تصوراتها الشخصية الاحتوائية التي تسعى لان تبهر الآخر بطرق التوائية بعيدة عن صيغة الخطاب الثقافي والذي بدوره يؤسس لمعالجة اخطاء الهوية (هوية المثقف)، وعدم انحيازه لسلوكياته وممارساته التي تجعله يسلع ثقافته عبر مد جسور خاطئة تكشف تصرفاته.. والتي قد يسقطها الآخر على ثقافة بيئته. وإذا كان يرى ان بعض مثقفينا يعيش ازمة وعي حينما يضخمون (الأنا) ويحصرون ثقافتهم في حب التملك والاشباع الثقافي واسقاط رأي الآخرين، فان ما يجب ان ندركه هو ان مفهوم (قوة الأنا) يختلف اختلافاً كلياً عن مفهوم (تضخم الأنا)؛ فالمفهوم الاول ينتج لنا مثقفاً حقيقياً تنويرياً او ما يسميه محمد أركون بـ(المثقف النقدي) الذي يتناول ثقافته من خلال نقد النصوص متجاوزًا كل نمطيات الأنا المتضخمة وانعكاسها على الواقع، أما (الأنا المتضخمة) فهي تسعى بطبعها إلى نفي الآخر وعدم الاعتراف به وفرض الهيمنة والفوقية والتعالي عليه، ما يفقد الثقافة قيمتها التي نراهن عليها كمحصلة مستقبلية. وقد اشار الدكتور الغذامي في كتابه عن تضخم الذات الشعرية لدى بعض الشعراء كالمتنبي وادونيس، ان تضخم الذات عندهما يمنعانهما عن رؤية الآخر او الانتماء إلى أي طبقة غير طبقة الفحول او طبقة الشعراء الكبار، وهذا يؤكد حقيقة الذهنية الهشة التي يعاني منها بعض مثقفينا، حيث لا يمكن لهذه الأنا المتضخمة الا توريث ثقافة رجعية تنحاز للذاتية لا العقلانية وبطبيعة الحال هذا منحى خطر! للمفكر اسحاق يعقوب الشيخ مقال عنوانه «المثقفون فئة» (جريدة الأيام - يوليو 2019) يذكر فيه «تتميز نبتة فئة المثقفين عن شرائح المجتمع بخصائص عدم الثبات والتلون والتذبذب وتورم الذات والتجذر النرجسي والادعاء والتبجح الصلف والتوفر والتأزم، وهذه صفات لا يجوز اطلاقها على جميع المثقفين بقضهم وقضيضهم ففي ذلك من التجني وعدم الدقة، وانما هي صفة شائعة تلاحق ارتالهم في دهاليز انشطتهم الفكرية والابداعية والفلسفية وحيثما كانوا وأناخوا ركابهم!». إن صفة (الأنا) والأنانية المستمدة من أنانية النفس هي افرازات كريهة روائحها، تفوح بين لفائف قروح الاورام الذاتية، وقد يتلمسها كل لبيب مهما حاول هذا المثقف او الشاعر او الاديب او الفنان اخفاءها والتمظهر بالتواضع وانكار الذات والايحاء الكاذب البليد بالالمام بالمعارف والعلوم الفلسفية ونوادر الخصوصيات ونوبات المواهب التي تلم به اثناء الحالات الابداعية؛ أ كان شعراً ام نثراً أم اخراجاً فنياً وما إلى ذلك في الحياة الفنية. وبجانب ذلك يرى ان اشكالية المثقف تتمثل في اشكالية نرجسيته وهو ما يرتبط بتفاهة التركيبة النوعية لهذا المثقف او ذاك! عندما يسقط المثقف في براثن النرجسية يسقط في عيون الاغلبية، يقول الكاتب نبيل تومي في هذا الصدد: «كان ومايزال الطموح والحلم، النجاح والتألق، النجومية والنخبوية، المكانة الاجتماعية، الموقع السياسي، الغنى المادي، القائد الكبير، السياسي البارز، الشاعر النخبوي، الفنان المغمور، المهني، المخترع المصمم اللامع.. الخ! كلها من الامور الشرعية والتي هي اساس النجاح والتقدم لسائر البشر ولا يوجد من يعارض او يتعارض اخلاقياً البتة مع رغبة الافراد في النجاح.. ولكن حسبي من ان البعض أو ربما الكثيرين من الناجحين والمرموقين في مختلف المجالات يصابون بمرض داء العظمة أو (الافراط في النرجسية)». هناك أمثلة حية كثيرة في الدول العربية من قادة ورؤساء دول، ونخب سياسية وثقافية يغوصون في وحل النرجسية.

مشاركة :