ما انفك دعاة التقدم بواسطة التقنية والعلم التطبيقي يَعِدون الناس طوال قرون بسعادة الغد، أو بعد الغد في أقصى الحالات، ثم عقبتها الثورة التكنولوجية الرقمية لتؤكد تلك الوعود بعالم أفضل ملؤه السعادة والرخاء للجميع، وغد يبشّر بالخلود وغزو الفضاء والقدرة على تصليح قارة منهكة. كل ذلك ينقضه المهندس الفرنسي فيليب بيوي في كتاب “كانت السعادة للغد”، بوصفه واقعا يجهل متطلبات العالم المادي وموارده المحدودة، ويقترح تغييرا يقوم على أنماط اقتصادية جديدة أكثر دائرية تعتمد على أعمال بسيطة يؤديها المستهلكون الناشطون للخروج من جمود المنظومة وتسلّط القوى المهيمنة. فالشرط عنده أن نبدأ بكنس الوعود الزائفة التي لم تتحقق لا ماضيا ولا حاضرا، لنضع أقدامنا على الأرض ونشرع في اتخاذ إجراءات بسيطة ولكنها عملية، على كل الأصعدة، لتحقيق ما نروم تحقيقه. بعد “كارثة المدرسة الرقمية، دفاعا عن مدرسة بلا شاشات”، يؤكد بيوي في كتابه الجديد على أن الأمل في إنقاذ كوكبنا لا يزال قائما، ولكن ذلك رهين تغيير السلوكيات. الخطر الوشيك تقييم دقيق لتفادي الكارثة تقييم دقيق لتفادي الكارثة ما يثار عن الاحتباس الحراري اليوم واضح منذ 1979، وربما بشكل أفضل، فقد وقع الحسم في أهم ملامح المشكل، وكان المتخصصون يعملون لتفادي الكارثة. في كتاب “تضييع الأرض” يؤكد الأميركي ناثانييل ريتش، الصحافي بجريدة نيويورك تايمز، أنه كان بإمكاننا إنقاذ الأرض قبل ثلاثين عاما، ولم نفعل، لأن كوكبنا أخلّ بموعده مع المناخ، رغم جهود كثير من “مطلقي الإنذار”، المتناقضة حينا، والمتطابقة حينا آخر، دون القيام بما من شأنه إيقاف التغير المناخي، حتى اعتاد الجميع على انتظار الدمار المحتوم. “تضييع الأرض” الذي صدرت ترجمته الفرنسية هذه الأيام، وثيقة للتاريخ، تاريخنا، سرد ممتع يدعو فيه الكاتب قارئه إلى مائدة المفاوضات ليُسمعه صيحات الإنذار، والسكوت المريب، والمماطلات، وقوة الجمود والتخلي، وصولا إلى وشك وقوع الكارثة. هي حكاية الفرص الضائعة والتقييم الدقيق والمفصل للطريقة التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه اليوم، وما يمكن أن نفعله لتدارك ما جرى، قبل فوات الأوان. العبودية عبر التاريخ “مؤسسة العبودية” مقاربة عالمية لتجارة العبيد نشره عالم الأنثروبولوجيا الفرنسي ألان تيستار منذ أعوام وأعيد نشره مع تنقيح وإضافات لفاليري ليكريفان. في هذا الكتاب يبين تيستار أن مفهوم العبد ما انفك يتغير عبر العصور والأمصار لا يقرّ له قرار، ولكن يظل يحمل معنى الإقصاء، فهو مقصى من مدينة المجتمعات القديمة، ومقصى من القرابة في مجتمعات الأنساب، ومقصى بوصفه رعية في المجتمعات الملكية، فالإقصاء من إحدى العلاقات الاجتماعية التي يعتبرها المجتمع أساسية هو الذي يميز العبد عن بقية أشكال التبعية والاسترقاق. وتحت العبودية تكمن مسألة السلطة، إذ ثمة في نظر الكاتب صلة مباشرة بين العبودية وظهور الدولة، التي تسمح لنفسها باحتكار العبيد، أمام سلطات منافسة، أيا ما يكن نوعها، سواء كانت اقتصادية أم لا. ما قاده إلى التأكد، اعتمادا على وثائق مرجعية عديدة، من أن المجتمعات الأقل مركزية، والأقل تراتبية، التي يفترض أنها أقل اضطهادا، هي التي توجد فيها أبشع أنواع العبودية. بينما تكون ظروف الاستعباد أقل بشاعة في المجتمعات الأكثر استبدادا وتسلطا. الجسد المصنوع جديد الفيلسوفة الفرنسية سيليان أغاسينسكي كتاب بعنوان “الإنسان المفصول الجسد: من الجسد الطبيعي إلى البدن المصنوع” تبين فيه كيف أن إنسان هذا العصر يريد السيطرة على الطبيعة، وتغيير طبيعته نفسها، والتخلص من الجسد والموت والجيل المجنَّس. فبفضل القوة العلمية والتقنية صار بعضهم يحلم بتغيير جسده وإنتاج خلفته في المختبرات. وتتساءل هل سيصبح إنسان الغد بلا جنس محدد، ويولد بلا أب وأم. تقول الكاتبة “جسدنا ملك لنا ولكننا لا نملكه كمتاع يمكن إعطاؤه أو بيعه، كما نفعل ببيت أو سيارة أو دراجة. هذا الخلط تغذيه عمدا أيديولوجيا ليبرالية متطرفة تريد إقناعنا بأننا يمكن أن نتنازل عن أجسادنا ما دامت ملكا لنا”. كتاب يحذر من مخاطر الليبرالية المتطرفة التي تعتبر كاليفورنيا مركزا لها، ومن انحرافات البيوتيقا. إذا كان الجندر غير مرتبط بالجنس فلماذا لا نغيره كل صباح؟ وإذا كان الجسد طوع وعينا، فلماذا لا نحوّره إلى ما لا نهاية؟ وإذا لم يكن ثمة فرق بين الحيوان والبشر فلماذا لا نجري التجارب العلمية على الذين هم في حالة غيبوبة بدل الحيوانات؟ وإذا كان ثمة حيوات جديرة بأن تعاش وأخرى غير جديرة فلماذا لا نتخلص من المعاقين بمن فيهم الأطفال “المعطوبين”؟ ولماذا لا نؤمم أعضاء من هم في عداد الموتى لفائدة بشر واعدين؟ في “الفلسفة إذ جُنّت، الجندر والحيوان والموت”، يتوقف جان فرنسوا براونشتاين أستاذ الفلسفة بالسوربون عند عدد من مشاهير المفكرين في الغرب، ليناقش أفكارهم ويفضح تناقضاتهم ويبيّن مسيرتهم الذاتية، فيحلل ويفكك، ليستخلص أن من الخطأ إزالة الحدود بين الجنسين، وبين الحيوان من جهة والبشر من جهة أخرى، وبين الأحياء والأموات، والصواب أن نواجه تلك الحدود التي تشكلنا، مؤكدا أن الفلسفة تصاب بالجنون حين تنسى الإنسان. الفردانية المعاصرة والفراغ يعالج جيل ليبوفتسكي مسألة الفردانية في الديمقراطيات المعاصرة التي تميزت بضمور المشاريع المشتركة واندثارها، فآلت إلى ما أسماه “عهد الفراغ”، عنوان كتابه الأخير، إذ بات كل فرد يخصص حياته لذاته ويعيش عيشة انتقائية وكأنه في مطعم. والكاتب يحلل، دون إصدار أحكام، الأشكال الحالية للفردانية ويصف، دون جهل بالآثار المحرّفة لنزع القدسية عن القيم التقليدية في السياسة والأخلاق، ظهور شكل جديد من الهيدونية الخائبة، فالنرجسية وتقديس الطيش واللامبالاة وعدم أخذ الأمور مأخذ الجدّ تتبدى كلها في استشراء موضة التزحلق (سورف أو رولر) وممارسة السخرية الذاتية خضوعا هنا أيضا لمتطلبات الموضة والإشهار، وكذلك الميل إلى كل ما هو خفيف (لايت) من الزبادي إلى المعارف التي ينبغي تخفيفها ما أمكن لمزيد ترغيب الناس فيها. كتاب ممتع يجمع لذة القراءة إلى نظرة تأمل في مجتمعات ما بعد الحداثة.
مشاركة :