يعد التسامح من المبادئ الإنسانية والدينية الثابتة، كما يمثل ضـرورة سياسـية وأخلاقيـة واجتماعيـة، خاصـة في المجتمعـات ذات التنـوع السياسـي والـديني والطائفي والقـومي. وباعتبارها من الدول التي أولت التسامح مكانة مركزية في سياساتها وخصصت له وزارة منفردة، احتضنت دولة الإمارات العربية المتحدة، الاثنين، محاضرة نظمها مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية بعنوان “التسامح في الفكر الإسلامي ودوره في خدمة الإنسانية”، أكد خلالها الدكتور علي جمعة، على أهمية التسامح لكونه يمثل ركيزة أساسية لتأسيس مجتمعات عصرية يعيش فيها الفرد آمنا مطمئنا على حياته وماله وعرضه. أبوظبي - أكد الدكتور علي جمعة عضو هيئة كبار علماء الأزهر الشريف في جمهورية مصر العربية على أهمية التسامح في الفكر الإسلامي بوصفه أحد أهم الثوابت التي تشترك فيها الديانات السماوية وهو يشمل التسامح مع النفس والتسامح مع الآخر، مشيراً إلى أن العقيدة لا تصح ولا تُقبل إلا بالاقتناع العقلي والاطمئنان القلبي؛ لذا حرّم الإسلام الإكراه في الدين. جاء ذلك ضمن محاضرة نظمها مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية بحضور مدير المركز، الأستاذ الدكتور جمال سند السويدي، ضمن سلسلة محاضرته التي بلغت (696 محاضرة)، بعنوان “التسامح في الفكر الإسلامي ودوره في خدمة الإنسانية”، ألقاها الدكتور علي جمعة، عضو هيئة كبار علماء الأزهر الشريف، في جمهورية مصر العربية، الاثنين، 23 سبتمبر 2019 في قاعة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، بمقر المركز في أبوظبي. وسلّط جمعة الضوء في محاضرته على التسامح؛ بوصفه أحد أهم الثوابت التي تشترك فيها الديانات السماوية؛ كما تطرق إلى بُعد مهم وبارز لمعنى التسامح في الدين الإسلامي، ألا وهو تحريم الإكراه في الدين، إضافة إلى مبادئ الإسلام السمحة في ضرورة حماية أماكن العبادات الخاصة بأهل الأديان السماوية الأخرى؛ مثل الكنائس ومعابد الديانات الإلهية، والدفاع عنها مثلها مثل الدفاع عن مساجد المسلمين. ويمثل التسامح صفة إنسانية نبيلة وقيمة أخلاقية عالية حثت عليها جميع الديانات السماوية وغير السماوية، وعززها الفكر البشري المنفتح. والتسامح كمفهوم أخلاقي واجتماعي دعا إليه كافة الرسل والأنبياء والفلاسفة والمفكرين والمصلحين عبر التاريخ قديمه وحديثه، لما له من دور وأهمية كبرى في تحقيق وحدة وتماسك المجتمعات البشرية والقضاء على الخلافات والصراعات بين الجماعات والأفراد. وهو ركيزة أساسية في بناء الأوطان ودعم وحدة المجتمعات. وأبرزت الديانات السماوية قيمة التسامح وخاصة الدين الإسلامي الذي حرص على إرساء علاقة تعارف وتعاون بين المسلمين وغيرهم من أبناء الديانات والثقافات الأخرى، وفق قوله تعالى “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا”، في رؤية تدعو إلى جسر الهوة والفرقة بين الشعوب المختلفة بغض النظر عن التباينات والاختلافات. ويعني التسامح القدرة على تحمل الرأي الآخر والصبر على أشياء لا يحبها الإنسان ولا يرغب فيها، بل يعتبرها أحيانا مناقضة لمنظومته الفكرية والأخلاقية، ذلك أن قبول مبدأ التسامح وفكرة التعايش يعني تجاوز سبل الانقسام التي تقوم على أساس القومية أو الدين أو الطائفة أو العشيرة أو غيرها من الروابط. وعلى عكس ما تروجه الجماعات المتطرفة من خطابات التطرف والتعصب والتكفير، يحرص الإسلام على أن تكون الدعوة إليه عن طريق الحوار والإقناع وليس عن طريق القسر والإكراه، مثلما ورد في قوله تعالى “قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ”. ويتضح من ذلك أن الإسلام يُقر حرية الاعتقاد، ويرفض رفضا قاطعا إكراه أحد على اعتناق الإسلام في اعتراف صريح بالتَعددِيّة الدينية. وفي هذا السياق بيّن الدكتور علي جمعة أن التسامح تحقق في الإسلام بصورة واضحة، فقد تعايش في مدينة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – المسلم واليهودي والمسيحي مع غيرهم، واستقبل الرسول الوفود العربية من عابدي الأوثان، وتمتع الجميع بالاحترام والمواطنة وحرية ممارسة شعائر دينهم، ولم نجد أثراً لعصبية أو اضطهاد أو تمييز، وأضاف المحاضر أن تكريس التسامح في مجتمعٍ ما يحتاج إلى برنامج خاص لتربية الأفراد وتعليمهم، وتكريس قيم الانفتاح والتعايش وقبول الآخر في قلوبهم وعقولهم. قال جمعة إن الديانات السماوية تستقي من مَعينٍ واحد، وإن الأنبياء إخوة، لا تفاضل بينهم من حيث أصل الرسالة، مؤكداً أن التسامح يشمل التسامح مع النفس والتسامح مع الآخر، مشيراً إلى أن العقيدة لا تصح ولا تُقبل إلا بالاقتناع العقلي والاطمئنان القلبي؛ لذا حرم الإسلام الإكراه في الدين. التسامح من أهم الثوابت التي تشترك فيها الديانات السماوية، وهو ينبني على تحريم الإكراه في الدين وحماية أماكن العبادات الخاصة بأهل الأديان السماوية الأخرى شدّد المُحاضر على ضرورة احترام العُبّاد ورجال الدين وأماكن العبادة على اختلافها، مؤكدا أن القرآن الكريم أمر بمجادلة المخالفين بالحسنى والعقل؛ وهو ما يترتب عليه وجوب احترام الآخر وتقدير إنسانيته، ومناقشة فكره وفهمه وعقيدته على أساس من التسامح والرحمة والرِفق. ويعتبر التسامح ثقافة شخصية ومجتمعية، وممارسة يمكن أن تكون على مستوى الأفراد والجماعات والدول، وهو مبدأ ينبثق عنه الاستعداد للسماح بالتعبير عن المعتقدات الدينية والمواقف السياسية والمصالح الفرديـة والجماعية. وشدد جمعة على أن دولة الإمارات العربية المتحدة تعد موطناً أصيلاً للتسامح والتعايش، ومن هذا المنطلق، جاءت مبادرة الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، بجعْل عام 2019 “عاماً للتسامح”؛ وهو ما يعكس الأولوية المركزية لقيمة التسامح لدى القيادة الرشيدة للدولة، التي جعلت من التسامح واقعاً مُعاشا في مجتمع الإمارات الذي يعيش فيه خليط متنوع من الأعراق والديانات في تناغم تام. وتعتبر الإمارات الدولة الوحيدة في العالم التي خصصت حقيبة وزارية للتسامح، كما أنها تحتضن مقيمين من أكثر من 200 جنسية من مختلف الثقافات والأديان يعيشون على أراضيها بانسجام ووئام، وتحتل المركز الأول عالميا كأكبر جهة مانحة للمساعدات الخارجية في العالم. وهي تأتي في المركز الأول عالميا كأكبر دولة مانحة في مجال تقديم المساعدات الإنسانية الطارئة للشعب اليمني في عام 2018، وتحافظ للعام الـ5 على التوالي على مكانتها ضمن أكبر المانحين الدوليين في مجال المساعدات التنموية الرسمية. وأنهى الدكتور علي جمعة محاضرته بالتأكيد على أن التسامح يعد ركيزة أساسية لتأسيس مجتمعات عصرية يعيش فيها الفرد آمناً مطمئناً على حياته وماله وعرضه، وشدد على أن الأخلاق الحميدة تعد بمنزلة المدخل الرئيسي لتحقيق قيمة التسامح، وجعلها المبدأ الحاكم للتعامل بين الناس.
مشاركة :