كمال الجزولي وليام آدمز أستاذ الأنثروبولوجيا بجامعة كنتاكي الأمريكية قدم لتاريخ وآثار السودان أعظم يد، وأجل خدمة، بقيادته حملة اليونيسكو العالمية لإنقاذ آثار النوبة (1959م 1966م).الخميس 22 أغسطس/آب المنصرم انهد ركن من أهم أركان البحث الآثاري في السودان، إن لم يكن أهمها طراً، حيث غادر هذه الفانية، عن عمر يناهز ال 92 عاماً، عالم الآثار الإنجليزي الكبير البروفيسور وليام آدمز، أستاذ الأنثروبولوجيا بجامعة كنتاكي الأمريكية الذي قدم لتاريخ وآثار السودان أعظم يد، وأجل خدمة، بقيادته حملةَ اليونيسكو العالمية لإنقاذ آثار النوبة (1959م 1966م)، وهي المنطقة الواقعة على النيل بين الشلالين الأول والثاني، والتي اختفت، مرة وإلى الأبد، تحت مياه السد العالي بعد تشييده بأسوان، وكانت تعرف بمملكة تاسيتي. لقد كانت تلك بمنزلة أول حملة إنقاذ آثارية منظمة في العالم، بمشاركة ثلاث عشرة بعثة أجنبية تولى آدمز مسؤولية الإشراف على أنشطتها، إدارياً ولوجستياً، بتنسيق مباشر مع هيئة الآثار السودانية. وقد تمثلت خدمته لتاريخ وآثار السودان والنوبة بإجرائه تنقيباتٍ غير مسبوقة عن مواقع ذات أهمية استثنائية لم تكن قد استكشفت من قبل، كجزيرتي مينارتي وكلبنارتي، وبقيامه، كذلك، بتأسيس الجمعية العالمية للدراسات النوبية التي تبرع لها بمكتبة تعد من أضخم وأثرى المكتبات الشخصية، وبتتويجه كل ذلك، وفوق ذلك، بوضع سفره المرجعي المهيب «النوبة رواق إفريقيا Nubia Corridor to Africa»، والذي صدرت طبعته الإنجليزية الأولى عام 1977م، مزودة بأدق الخرائط، والصور، والرسومات، ليحصد لقاء ذلك العديد من الجوائز العالمية، وقد أنفق البروفيسور محجوب التجاني، أستاذ علم الاجتماع بجامعة تنيسي الأمريكية، زهاء الثلاث سنوات في ترجمة هذا الكتاب إلى العربية في 710 صفحات.فضلاً عن كل ذلك قام آدمز بتأليف عشرات الكتب، ونشر مئات المقالات العلمية، والأوراق البحثية، فضلاً عن المشاركة في أعداد مهولة من المؤتمرات، والندوات، وورش العمل، وغيرها من الفعاليات الأكاديمية، والتي خصصها أجمعها لآثار هذه المنطقة التي عاش فيها طوال سبع سنوات، حيث فاق اهتمامه بها، وغيرته عليها، ما خص به آثار وطنه الأم نفسه من اهتمام وغيرة. شاعت عن آدمز أقوال تعكس عمق محبته وإجلاله للمنطقة وأهلها، كوصفه النوبيين بأنهم «قوم رائعون ذوو تاريخ رائع»! وقد انعكست تلك المحبة وذلك الإجلال في اعتباره، دائماً، أن مؤلفه الضخم «رواق إفريقيا» هو إنجاز عمره، بل بمنزلة طفله الذي لا يعدل حبَّه له حبٌّ آخر. وعن قيمة عمل بعثة اليونيسكو الإنقاذية كتب آدمز يقول: «بينما كان السد العالي يسدل الستار على كتاب النوبة، كان يدشن، في الوقت نفسه، فصلاً جديداً في دراسة آثار النوبة العليا. فعمليات البحث في بداية القرن الماضي كانت جشعة، تبحث فقط عن القطع الفنية والكنوز، وبعدها جاءت عمليات تنقيب انتقائية عن القصور، والقبور، والمعابد الملكية، بيد أن حملة الإنقاذ العالمية هذه فرضت على علماء الآثار الاهتمام بأي قطعة صغيرة يعثرون عليها، فجاءت الدراسات وافية لشعب بأكمله». ورغم غزارة ما كتب عن النوبة من نصوص قديمة منصفة على يد هوميروس وغيره، و ورود ذكر بعض ملوكهم، كتهارقا، في الكتاب المقدس، وتخصيص علماء المسلمين، كابن خلدون، والمقريزي، والمسعودي، فصولاً بأكملها للتنويه بتواريخهم المجيدة، والمظاهر التي لا شك فيها لتلاقحهم الحضاري والثقافي مع الرومان، والإغريق، والفراعنة، منذ العصور الوثنية، حتى المسيحية، والإسلام، إلا أن النصوص الهيروغليفية أجحفت، مع ذلك، في حقهم، وغمطتهم كثيراً من امتيازاتهم الحضارية. ولعل هذه الملاحظة بالذات كانت وراء استغراب آدمز لتأثر الكثير من علماء الآثار بهذا الحيف، مثلما كانت نفس الملاحظة وراء دهشة أنثروبولوجيِّي حملة اليونيسكو الإنقاذية، عندما تبينوا أن أرض النوبة تعج بآثار ما لا يقل عن أربع حقب مستقلة!ولم يغفل آدمز، بالضرورة، عمليات التهجير التي تعرض النوبيون للعنتها تاريخياً، خصوصاً تهجير 53 ألف نوبي سوداني، خلال فترة بناء السد العالي، مما أدى لتفجير غضب عام لم يقتصر على النوبيين وحدهم، فتحول إلى مفاعل سياسي أسهم، في تفجير ثورة أكتوبر/تشرين الأول 1964م، التي أطاحت بنظام الفريق إبراهيم عبود. kgizouli@gmail.com
مشاركة :