استمع د. يوسف مكي نعت الأوساط الفكرية والثقافية رحيل الصديق والزميل العزيز المفكر والباحث الكبير الأستاذ الدكتور رغيد الصلح، الذي وافته المنية، بعد جلطة دماغية مفاجئة حلت به، أثناء وجوده في أكسفورد. وبرحيله فقدت الساحة اللبنانية والعربية، علماً من أعلامها، الذين نذروا أنفسهم لخدمة أمتهم، من خلال الفكر والممارسة، على الصعيدين الوطني والقومي. وبالنسبة لي شخصياً، فقدت فيه الصديق النبيل، ورفيق مسيرة فكرة طويلة، امتدت قرابة أربعة عقود، تعلمت فيها الكثير؛ حيث كان الفقيد الغالي، كريماً معطاء وأريحياً، لا يتردد عن تقديم رأي أو دعم، حيثما أمكنه ذلك، على كل الصعد. بدأت علاقتي بالراحل الغالي، في مطالع الثمانينات من القرن المنصرم، حين اتصل بي أثناء وجودي بمدينة سان فرانسيسكو، بولاية كاليفورنيا، حاملاً رسالة من صديق عزيز. والتقينا سوياً بالمدينة الجميلة. ومنذ ذلك التاريخ تكررت لقاءاتنا، في عدد من المدن العربية، والعالمية، وأكثرها في مدينة بيروت، التي تشدني إليها روابط كثيرة، جعلت لها مكانة كبيرة في القلب والعقل. وكانت أكثر لقاءاتنا، تتم على هامش الندوات التي يعقدها مركز دراسات الوحدة العربية، أو دورات المؤتمر القومي العربي. وفي كل لقاء كنت أكتشف بعداً آخر، من شخصية رغيد الجميلة، فهذا المثقف سليل الأرستقراطية اللبنانية، صاحب الخصال الحميدة، هو المناضل وسط العمال والطلاب، حاملاً همومهم ومشاكلهم، وهو أيضاً المناضل القومي العربي، الذي يحلم بتحرير فلسطين، وبأمة عربية موحدة خالية من الظلم والقيود. وهو المثقف الكاتب الذي يسخر قلمه الرصين للدفاع عن قضايا أمته، مستخدماً أحدث المناهج وآليات التحليل للوصول إلى هدفه. قبل عدة سنوات، وقبيل اندلاع الخريف العربي، كان لنا لقاء ثلاثياً جميلاً، على أحد هضاب بيروت التي نعشقها جميعاً، ضم راحلنا العزيز الدكتور رغيد كما ضم الصديق العزيز، المفكر الخليجي الدكتور خلدون النقيب. وكأن القدر كان يتربص بنا جميعاً؛ حيث لم تمض سوى فترة وجيزة، إلا ويرحل عنا خلدون، بالطريقة ذاتها التي رحل فيها رغيد. وكان من حسن حظه أن رحل قبل أن يشهد الحرائق والبراكين، تأكل الأخضر واليابس من الأمة التي عشقها، ومنحها شبابه وفكره وقلمه. بدأ رغيد حياته السياسية مبكراً، في أواخر الخمسينات من القرن الماضي، وهو لما يزل في ريعان الشباب، طالباً في المرحلة الثانوية، حين أسس مع مجموعة من زملائه، جمعية الشباب العربية، التي تولى رئاستها، وكانت الأمة العربية تعيش مرحلة الكفاح الوطني للتحرر من نير الاستعمار التقليدي، في حقبة نهوض شهدت تحقيق أول وحدة عربية معاصرة، بين مصر وسوريا. وحين التحق بالجامعة الأمريكية في بيروت، واصل طريقه، شعلة متوهجة، مسخراً فكره وقلمه ووقته لخدمة قضايا وطنه وأمته. فساهم في تأسيس رابطة الإنعاش القومي، التي تولى رئاستها، وقد اضطلعت تلك الرابطة بمهام اجتماعية ووطنية وقومية. فعلى الصعيد الاجتماعي، كون مع نخبة من زملائه مدرسة تطوعية لمحو الأمية، والتحريض على اكتساب العلم والمعرفة، بين عمال الجامعة. وعلى الصعيد الوطني، عمل على تبني بلاد الأرز سياسات مستقلة تتسق مع حالة الغليان القومي، الذي أخذت مكانها بقوة، منذ منتصف الخمسينات حتى نكسة الخامس من يونيو/حزيران عام ١٩٦٧. انخرط رغيد في حركة القوميين العرب، التي طرحت ضمن أولوياتها تحرير فلسطين، من المغتصب الصهيوني، ثم انتقل لاحقاً إلى حزب البعث، ليكون عضواً فاعلاً ضمن كوادره المتقدمة. ورافق انطلاق الثورة الفلسطينية، عام ١٩٦٥، ولم يتردد عن منحها عقله وقلبه، وتسخير قلمه تأييداً ودعماً لها. وحين تأسست جبهة التحرير العربية، بعد النكسة، لم يتردد عن الالتحاق بها، لأنه رأى في برنامجها السياسي، ما يتسق مع انتمائه الفكري العروبي القومي. وحين تعرضت المقاومة الفلسطينية، في لبنان لمحاولات التضييق، لم يتردد رغيد، وهو ابن الأسرة الأرستقراطية المنهمكة بالسلطة، عن الجهر بتأييده لحقها في مقاومة الاحتلال الصهيوني، وتحرير الأرض الفلسطينية المحتلة. وبسبب مواقفه القومية والوطنية، تعرض الراحل الفقيد لمحاولة اغتيال في خريف عام ١٩٧٥دفع به لمغادرة لبنان إلى بريطانيا، لكنه بقي مسكوناً بقضية لبنان والأمة العربية، وبشكل خاص قضية فلسطين، طوال مكوثه في المنفي الاختياري، مناضلاً بالقلم والمحاضرات والكتب العديدة التي نشرها، في سبيل وحدة لبنان، وخروجه معافي من الحرب الأهلية الطاحنة التي شهدتها بلاد الأرز منذ منتصف السبعينات من القرن المنصرم. صدر للفقيد الغالي عدة كتب، منها حربا بريطانياً والعراق، ولبنان والعروبة والهوية الوطنية وتكوين الدولة. وفي هذه الكتب تبدى الراحل كاتباً موسوعياً رصيناً، ووطنياً ملتزماً، حافظ رغم التزامه الوطني، على التمسك بآليات ومناهج البحث العلمي، وكرس علمه ومعرفته بما يتسق مع توجهاته الوطنية والقومية. خلال السنوات الأخيرة، من عمره اهتمت كتاباته بالدولة المدنية وبالدراسات الديمقراطية، وأسس مع صديقه ورفيق دربه الدكتور علي خليفة الكواري، مركز للدراسات الديمقراطية في جامعة أكسفورد أثرت المكتبة العربية بالكتابات العميقة والرصينة، وصدرت في كتب عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت. رحم الله الفقيد الغالي، وأسكنه فسيح جناته، وألهم ذويه وأصدقائه ومحبيه الصبر والسلوان، وإنا لله وإنا له لراجعون. yousifmakki2010@gmail.com
مشاركة :