لم يتوقف العرب عن توليد الأفذاذ من الفلاسفة والعلماء، عبر تاريخهم الطويل، رغم الانتكاسات والظروف غير المواتية التي صادفتهم في بعض مراحل التاريخ. وقد شهد القرن الرابع عشر الميلادي (وهو قرن توشك فيه الحضارة العربية على الأفول) ميلاد فيلسوف التاريخ وعلم الاجتماع العربي عبدالرحمن بن محمد ابن خلدون (1332-1406) الذي أصبح في عرف العلماء في الغرب والشرق، رائدًا لعلم الاجتماع في العالم. ولكن المؤسف أن الغرب سبقنا إلى استدراك أهمية هذا العالم الذي أدهشت نظرياته في المجتمع والتاريخ، علماء الغرب. لنستشهد هنا بآراء علماء الغرب أنفسهم. يقول المؤرخ الشهير أرنولد توينبي: «ابتكر ابن خلدون وصاغ فلسفة للتاريخ هي دون شك أعظم ما أنجزه البشر في مختلف العصور والأمم»، ويقول إيف لاكوست: «إن مؤلَف ابن خلدون يمثل ظهور التاريخ كعلم، وهو أروع عنصر فيما يمكن أن يسمى بالمعجزة العربية» واعتبر جورج مارسيز مؤلَف ابن خلدون «أحد أهم المؤلفات التي أنجزها الفكر الإنساني». ولكن لماذا يأتينا الاعتراف بعلمائنا وأدبائنا من الغرب دائمًا؟ فابن رشد احتفى به الغرب أولاً، وكذلك عالم الاجتماع ابن خلدون، والعالم العربي المصري محمد زويل اكتشفه الغرب أيضا وكافأه بجائزة نوبل، ونجيب محفوظ كاد يندثر ذكره في بلاده (كما حدث ليوسف إدريس رائد القصة القصيرة)، لولا أن جاءته جائزة نوبل إلى بيته فاستيقظنا، وأعدنا له اعتباره وفاخرنا به الأمم، ولكن كيف اكتشف الغرب ابن خلدون؟ ولماذا هم المكتشفون الأوائل في أغلب الحالات؟ انبنت الحضارة الغربية على العلم، بما فيه من اعتماد على التجريب، والدلالات المادية الملموسة، وعندما أراد العلماء الغربيون البحث في أسرار النفس ظهر عندهم علم النفس، وعندما أرادوا دراسة المجتمع، ظهر علم الاجتماع، ولم يكن التاريخ بعيدًا عن هذا المنهج العلمي، فظهر علم التاريخ، وعلى سجيتهم العلمية ذهب فلاسفتهم ومفكريهم يبحثون عن علم الاجتماع والتاريخ في التراث الإنساني السابق لهم عند الإغريق والعرب، ليبنوا عليه، فاكتشفوا ابن خلدون. هذا العالم العربي التونسي الولادة، الحضرمي الأصل، العربي الهوية، الذي وضع علمًا ومنهجًا ونظريات في الاجتماع الإنساني والتاريخ، وفي فترة مبكرة من التاريخ. عاش ابن خلدون في القرن الرابع عشر الميلادي. وتنقل وأقام في عدة أقطار عربية، وكان ذلك التنقل بين البلدان العربية عرفًا قديمًا عند العلماء والأدباء العرب، فالمتنبي انتقل من الكوفة في العراق مسقط رأسه، إلى الشام عند سيف الدولة، ثم شرّق إلى أرض الكنانة مصر عند الملك كافور الإخشيدي، في القرن الرابع الهجري، أما الشاعر أبوتمام فقد وُلد في سوريا وعاش في مصر وذهب إلى العراق ومات فيها، وفي القرن الخامس الهجري انتقل الشاعر أبوالعلاء المعري من معرة النعمان بسوريا إلى بغداد صدر الثقافة العربية، ومركزها ليُظهر علمه وشعره ويبرز في الأوساط الثقافية. تنقل ابن خلدون بين دول المغرب العربي والأندلس ومصر والشام والحجاز، وكان الملوك والعلماء وطلاب العلم يحتفون به أينما حل أو ذهب، فقد ذاع صيته وانتشر خبره، ثم مات ودفن في مصر في مقبرة الصوفيين. أنجز ابن خلدون علومه في عدة مؤلفات، أشهرها كتاب (العبر، وديوان المبتدأ والخبر، في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر) وهو مؤلَف كبير يحتوي سبعة أجزاء أشهرها (مقدمة ابن خلدون). قبل ابن خلدون لم يكن هناك علم للتاريخ والاجتماع، وكان المؤرخون يكتبون عما شاهدوه في عصورهم بعشوائية، ودون دقة وصرامة وحياد، وكانوا يخلطون التاريخ بالخرافات، وينحازون لجهة دون أخرى ويتبعون أهواءهم، أو كانوا يفعلون ذلك خوفًا من سطوة الملوك والسلاطين. وكانوا لا يلتفتون إلى جوهر وبواطن وأسباب حوادث التاريخ، أما علم الاجتماع فقد كان غائبًا كعلم له نظريات وأسس، تكاد أن تكون ثابتة ومتشابهة عند كل الشعوب. كيف صاغ ابن خلدون نظرياته في علم الاجتماع والتاريخ؟ وما الذي تميز به منهجه عن سابقيه؟ للحديث بقية.
مشاركة :