كانت نفوس مسلمي المغرب والأندلس تهفو دائماً إلى المشرق مهبط الدعوة الإسلامية، ومقر البلدان المقدسة: مكة، والمدينة، وبيت المقدس، وموطن العلم الإسلامي. وكان هدفهم الأول أداء فريضة الحج، وزيارة قبر الرسول، والتردد على المساجد ومعاهد العلم، والجلوس إلى العلماء والأخذ عنهم. وكانت المحطة الأولى لرحلتهم المشرقية مدينة الإسكندرية، الرباط والثغر الإسلامي الكبير، طلباً للراحة من عناء السفر، ولزيارة معالمها التاريخية. وكثرت رحلات المغاربة والأندلسيين إلى مصر والإسكندرية بخاصة، ومن أبرز العلماء المالكية الذين رحلوا إلى الإسكندرية واستقروا فيها في القرن الخامس الهجري (العصر الفاطمي) واتخذوها وطناً ودار إقامة لهم، الفقيه والعالم الصوفي أبو بكر الطرطوشي؛ المولود في العام 450 أو 451 هـ في مدينة «طرطوشة»، وإليها ينسب، وقد وصفها ياقوت الحموي، فقال: «مدينة كبيرة من مدن الأندلس تقوم على سفح جبل إلى الشرق من بلنسية وقرطبة، بينها وبين البحر عشرون ميلاً. وكانت مدينة تجارية عظيمة، وبها جامع كبير من خمس بلاطات، وله رحبة واسعة، بني سنة 345هـ». وتلقى الطرطوشي علومه الأولى في مسجدها الكبير وتتلمذ على أبي الوليد الباجي؛ شيخ الأندلسيين وعالمها في ذلك الوقت من دون منازع وبخاصة بعد وفاة منافسه ابن حزم. غادر الطرطوشي وطنه سنة 476هـ، وهو في الخامسة والعشرين من عمره، ليبدأ رحلته إلى المشرق. فاتجه إلى مكة واستقر فيها قليلاً بعد أداء الفريضة. ثم اتجه إلى بغداد، وكان يلي أمور الشرق في ذلك الوقت نظام المُلك وزير الملكيْن السلجوقيْين ألب أرسلان، وملك شاه، وهو وزير عالم يحب العلم والعلماء، يقربهم إليه، ويغدق عليهم العطايا. وأبرز ما يُذكر به نظام الملك في التاريخ أنه منشئ المدارس في العالم الإسلامي، فقد كانت المساجد في عصره هي معاهد العلم، وكان أول من أنشأ معاهد مستقلة للتعليم، يتفرغ فيها الطلاب للتعليم والمدرسين للتدريس، وأوقف الأوقاف الكثيرة للإنفاق عليها ومن أشهر المدارس وأكبرها المدرسة النظامية (459هـ) في بغداد التي بنيت قبل وصول الطرطوشي إليها بسنوات قليلة. وتتلمذ الطرطوشي على نظامية بغداد وهي في أوج عظمتها. وكان أول من عين للتدريس بها أبو نصر عبد السيد بن محمد بن الصباغ، ثم تولى منصب التدريس بها عدد من كبار الفقهاء الشافعية، من أمثال أبي إسحاق الشيرازي، وحجة الإسلام أبي حامد الغزالي. وعلى رغم أن أبي بكر الطرطوشي كان مالكي المذهب، فقد تتلمذ على معظم هؤلاء الفقهاء الشافعية وبعض فقهاء الحنابلة. وتُجمع المصادر على وصفهم بالفضل والعلم والتقوى والقدرة على التأليف والإنتاج. وناقش الطرطوشي في كتابه «سراج الملوك» فلسفة الحياة والموت ومصير الإنسان وكيف خُلق ومم خلق؟ وكيف ينتهي وإلي أين يصير؟ وكيف تنتهي الحياة إلى الموت؟ ثم كيف تتجدد الحياة من الفناء؟ يقول: «فإن الإنسان إذا مات عاد تراباً كما كان في النشأة الأولى، ثم قد يتفق أن يحفر لحده ويعجن بالماء ترابه، فيتخذ منه آنية، فتمتهن في البيوت، أو لبنة فتبنى في الجدار، وقد يجوز أن يغرس عند قبره شجرة، فيستحيل تراب الإنسان شجرة وورقاً وثمرة، فترعى البهائم أوراقها، ويأكل الإنسان ثمرها، فينبت منها لحمه، وينشر منها عظمه، أو تأكل تلك الثمرات الحشرات والبهائم، فبينما كان يقتات صار قوتاً، وبينما كان يأكل صار مأكولاً، ثم يعود في بطن الإنسان رجيعاً فيقذف في بيت الرحاضة، أو بعراً ينبذ بالعراء، ويجوز إذا حفر قبره أن تسفي الرياح ترابه، فتتفرق أجزاؤه في بطون الأودية والتلول والوهاد». وعندما بلغ الطرطوشي الثلاثين من عمره؛ غادر بغداد إلى الشام بعد أن بلغ من النضج الفكري درجة تؤهله للتدريس لينفع الناس بعلمه وبعد أن كوَّن لنفسه فلسفة خاصة قوامها الزهد والسعي للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فالسمة الظاهرة التي تميز أبي بكر الطرطوشي منذ دخل الشام إلى آخر حياته أنه عالم زاهد، وكان يبـتـعـد عن السلطان وينأى عنه وكان يقوم الليــل متعبــداً أثــنــاء مقامه في بيت المقدس، يشجيه الصوت يسمعه في هدوء الليل يناجي الله، ويــلوم النفس والقلب إن أغفيا أو توانيا عن ذكر الله. وغادر الطرطوشي الشام عام 490هـ بعد أن قضى فيها عشر سنوات، يطوف في مدنها الكبرى، ويستزيد من التحصيل، ويشغل معظم وقته بالتدريس حتى أصبح له تلاميذ كثيرون. غادر الطرطوشي الشام إلى الإسكندرية وكانت تعيش حالة من الرعب من جبروت الوزير الأفضل شاهنشاه بن بدر الجمالي الذي عطَّل الشعائر الدينية واضطهد علماءها وكانوا لا يستطيعون الجهر بالعلم؛ لأن الغالبية العظمى منهم يتبعون المذهب المالكي في حين أن المذهب الشيعي هو المذهب الرسمي للدولة، لكن الطرطوشي لم يهب السلطان وبدأ يدرس وينشر العلم على مذهب مالك. وتزوج بعد وصوله بقليل من سيدة موسرة من نساء الإسكندرية، فأطلقت يده في أموالها وتحسنت أحواله، ووهبته داراً من أملاكها جعل سكنه معها في الدور الأعلى، واتخذ من الدور الأسفل مدرسة يلقي فيها دروسه. وانتقد الطرطوشي بعض التصرفات المالية لقاضي الإسكندرية ابن حديد ومجافاتها لقواعد الشرع، والحياة المترفة التي كان يحياها. وأشاع الناس نقد الطرطوشي وتناقلوه في ما بينهم، ما أساء إلى سمعة القاضي. كما أفتى الطرطوشي بتحريم الجبن الذي يأتي به الروم إلى الإسكندرية، واجتذب عدداً كبيراً من تلاميذ المدينة وعلمائها. وجمع ابن حديد هذه المآخذ كلها ورفعها إلى الوزير الأفضل شاهنشاه وبيَّن له خطورة هذا الرجل على الإسكندرية وسكانها، فأرسل إليه وحدَّد إقامته في الفسطاط في أوائل سنة 515 وظل معتقلاً حتى شوال من السنة نفسها إلى أن قتل الوزير الأفضل شاهنشاه، وانكشفت الغمة عن الطرطوشي وقد تولى الوزارة صديقه المأمون البطائحي الذي أفرج عنه وقرَّبه إليه. وبمجرد عودة الطرطوشي إلى الإسكندرية، قام بتأليف كتاب في أصول الحكم والسياسة وما يجب أن يكون عليه الراعي والرعية، وأتمه في سنةٍ، وسمَّاه «سراج الملوك». وفي شوال 516 حمل الكتاب وسافر إلى القاهرة ليقدمه إلى الوزير المأمون البطائحي الذي استقبله بكل تبجيل واحترام. والكتاب يضم أربعة وستين فصلاً، جعل الفصل الأول في مواعظ الملوك، والثاني في مقامات العلماء والصالحين عند الأمراء والسلاطين، ومن بينها فصل لمنافع السلطان ومضاره، وفصل عن علاقة السلطان بالجند والمال، وفصل عن علاقة السلطان بالعلماء، فهم السياج الذي يمنع الحكام من الظلم، وفصل عما يصلح الرعية من الخصال... إلخ. وأشار ابن خلدون في مقدمته إلى كتاب الطرطوشي «سراج الملوك» واعترف أنه من المفكرين القلائل الذين سبقوه بالتأليف في علم الاجتماع والعمران، وقال إن الطرطوشي أحسن في تقسيم كتابه وتحديد موضوعاته، ولكنه لم يحــسن علاج هـذه الموضـوعات أو التفــكير فيــها أو عرضها. وترك الطرطوشي تسعة عشر كتاباً، منها «نزهة الإخوان المتحابين في الله، كتاب النهاية في فروع المالكية، كتاب نفائس الفنون، مختصر تفسير الثعالبي، الكتاب الكبير في مسائل الخلاف». وتوفي الطرطوشي في التاسعة والستين من عمره في ثلث الليل الأخير من ليلة السبت لأربع بقين من جمادي الأولى سنة 520 هـ ودفن في مقبرة (وعلة) قبلي الباب الأخضر؛ أحد أبواب الإسكندرية القديمة.
مشاركة :