في رسالة بعث بها الأديب مكسيم غوركي إلى المفكر الروسي أنوتشين، يقول غوركي: (إنك تنبؤنا بأن إبن خلدون في القرن الرابع عشر كان أول من اكتشف دور العوامل الاقتصادية وعلاقات الإنتاج، إن هذا النبأ قد أحدث وقعاً مثيراً، وقد اهتم به صديق الطرفين - المقصود به لينين - اهتماماً خاصاً. يعلق لينين قائلاً على ذلك: (ترى أليس في الشرق مثل هذا الفيلسوف). لقد تنبه إبن خلدون بثقافته الموسوعية، إلى تغيير المجتمعات بناءً على تغيير الظروف الاقتصادية في كل مرحلة أو حقبة، وصنفها كالتالي: البداوة وهي الشكل الأولي للاجتماع البشري، وفيها اعتمد البشر على مواد إنتاج جاهزة وبدائية، أما الزراعة فهي حالة إنتاج متقدمة على البداوة، حيث تبدأ معها علاقات إنتاج جديدة، ثم جاءت الصناعة في شكلها المبسط، وظهرت في المدن لإنتاج أدوات تُستخدم لأغراض العيش المختلف ثم جاءت التجارة. ولاحظ إبن خلدون اختلاف المفاهيم والعادات في كل مرحلة من هذه المراحل، كما بين كيف تجتمع الثروة عند أصحاب العمل، بما سُمي في عصرنا الرأسمالي بفائض القيمة، التي تذهب إلى رب العمل، بعد تشغيله مجاميع من البشر في مصنعه أو حقله. بطبيعة الحال، لم يتوسع إبن خلدون في هذه الحقائق والمفاهيم التي اهتدى إليها العلماء في العصر الحديث، فهذا ما فعله العلماء في العصور المتأخرة، لكنه استطاع تلمس هذه الظواهر والحقائق ووضع بعض الأسس لها، وهذا بحد ذاته يعتبر إنجازاً علمياً متقدماً، وكما نعلم فالعلم تراكمي، وكذلك المعرفة، بمعنى أنهما نتاج الخبرة البشرية الطويلة، فكل عالم أو مفكر يعتمد على علوم ومعارف من سبقه، ثم يضيف إلى ذلك ما عنده، وهكذا كانت رحلة العلم والمعارف الطويلة الشاقة، تتقدم إلى الأمام وترتفع إلى الأعلى. شرح إبن خلدون، كيف تتكون العادات الاجتماعية، فللبدو عادات وتقاليد وأعراف مختلفة عن عادات وتقاليد وأعراف الحضر في المدن، كما راقب التكوين القبلي والعصبية القبلية، التي تتولد عند أفراد القبيلة لانتماؤهم إلى نسب واحد، ثم هناك (كما أشار) عصبية تكون داخل القبيلة. وقال أن السلطة تتحول عادة إلى الفرع الأقوى في القبيلة. ثم تابع نشوء المدن الحضرية، حيث تذوب القبيلة (التي هي أساس الدولة) في المدن فتخفت العصبية، ويستغني الحاكم عن الاعتماد الكامل على قبيلته، وتتأسس الجيوش. ورأى إبن خلدون، تلازم نشوء الدول مع نشوء المدن والحياة الحضرية التي تنشط فيها الصناعة والتجارة. ثم عرج على تكوين الدولة، ومراحلها، وشبه عمر الدولة بعمر الإنسان، فهي تمر بأطوارالنشوء والتكون، ثم القوة والثبات حتى تصل إلى مرحلة الانهيار والزوال. أهم مؤلفات إبن خلدون هو كتاب (مقدمة إبن خلدون) التي صدرت في نسخة منفصلة خاصة، واحتوت المقدمة على علوم المجتمع وتواريخ البشر في العالم، وأحوالهم المادية والفكرية، وهي تتكون من ستة أبواب مادتها العمران في الحضر والبداوة والخلافة، كما احتوت المقدمة على (الصنائع والمعاش، والكسب ووجوهه)، وفي منهجه جمع إبن خلدون السياسة والتاريخ، ولاحظ العلاقة المتصلة بينهما، ثم اهتدى إلى الأسباب الخلفية لحوادث التاريخ، وهو ما لم يذهب إليه المؤرخون قبله، وشرح أسباب سقوط الدول، ولاحظ أن الاستبداد هو أحد هذه الإسباب، والظلم هو سبب آخر، وأشار إلى الأثر السئ للبطانة على الحاكم، وهم الذين يحيطون عادة بالحاكم ويحجبون عنه الحقائق. تُرجمت مقدمة إبن خلدون، التي هي سبب شهرته إلى كل اللغات الحية، واهتم بمادتها واكتشافاتها الكثير من المفكرين في الغرب، واستفادوا منها وأشاروا بالنتيجة إلى اعتباره رائد علم الاجتماع في العالم. هنا بعض أقوال هذا الفيلسوف الملهَم والملهِم، وسنرى أنها تنطبق انطباقاً كاملاً على أحوال العصر الحديث، يقول إبن خلدون: اتباع التقاليد لا يعني أن الأموات أحياء، بل إن الأحياء أموات / الفتن التي تتخفى وراء قناع الدين هي تجارة رائجة جدا، في عصور التراجع الفكري للمجتمعات / ظلم الأفراد بعضهم بعضاً يمكن رده بالشرع، أما ظلم السلطان فهو أشمل، وغير مقدور على رده، وهو المؤذن بالخراب / إن رجال الدين أهل شورى، في علوم الشرع، لا في الحل والعقد داخل الدولة، التي هي لغيرهم من أصحاب القوى الاجتماعية المؤثرة / حينما ينعم حاكم في أي دولة بالترف والنعمة، تلك الأمور تستقطب إليه ثلة من المرتزقين والوصوليين الذين يحجبونه عن الشعب، ويحجبون الشعب عنه، فيوصلون له من الأخبار أكذبها، ويصدون عنه الأخبار الصادقة التي يعاني منها الشعب.
مشاركة :