التركيز على الشكل قتل الحوار في مناظرة المرشحين للرئاسة التونسية

  • 10/14/2019
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

في نحو ساعتين من “التناظر” بين المرشحين للرئاسة التونسية قيس سعيد ونبيل القروي، مساء الجمعة 11 سبتمبر، تدخّل الصحافيان المكلفان بتسيير المناظرة عشر مرات ليطلبا من المرشحيْن التفاعل في ما بينهما تارة ولتذكيرهما بأن يتساءلا وأن يتقاطعا الحديث تارة أخرى. وحدث أنْ فعلا فإذا بجرس عدّاد الثواني يأمر أحد الصحافيين بالقول “انتهى الوقت”. فإذا تدخل الصحافي بمعدل مرة كل اثنتي عشرة دقيقة طالبا من المتناظريْن التفاعل، والحال أن صحافيي العالم يعانون من ضبط المتحاورين حتى لا يتماسكوا بالأطواق، فإن في مناظرة التلفزيون التونسي داءً قتل الحوار، وهو داء إعطاء شكل الحوار قيمة أكثر من مضمونه بالتضييق على المرشحيْن وفريقيهما بعدّاد الثواني. يقسّم الباحث الفرنسي المختص في شؤون التلفزيون، باتريك شارودو، الحوار إلى أربعة مستويات متداخلة وهي أن يخاطب المنافسُ منافسَه محاولا دحض أقواله وأن يتحدث عن الخطاب نفسه قصد التفاعل مع ما يقال في الأستوديو وأن يتحدث عن نفسه لإبراز مشروعيته ومصداقيته وأن يخاطب الجمهور باستهداف فئات يختارها لاستقطابها واستدرار عطفها. ويقر الباحث، وهو أمر لا يقبل جدلا، بأن المقطع الواحد من قول المتحاور يمكن أن يتنزل في المستويات الأربعة معا غير أن هناك دائما مستوى يطغى على الآخر. ويدرك عدد من ملايين التونسيين الذين تابعوا المناظرة أن المستوى الذي طغى عليها هو حديث كل مرشح عن نفسه ثم تظهر نادرا المستويات الثلاثة الأخرى.لقد تحدث المتحاوران إلى الجمهور واشتركا في مخاطبة الفقراء والأمنيين والمعطلين عن العمل والشباب غير أن قيس سعيد زاد عن تلك الفئات أخرى منها المتقاعدون وحتى بعض الفئات الفكرية السياسية التي غازلها مثل البورقيبيين ومناصري القضية الفلسطينية، ثمّ إنه أفرد الشباب بحديث مكثف خاصة منهم شباب المناطق الداخلية المفقرة. لقد خاطب سعيد أحدهم باسمه عندما روى قصة الشاب عادل الذي سافر من الجنوب إلى تونس مشيا حتى أدمت قدماه. ولم يظهر أثر المستوين الآخرين وهما الحديث عن المنافس والحديث عن الخطاب نفسه، أو الكلام على الكلام كما يقول التوحيدي، وهما المستويان اللذان يحدثان التفاعل بين المتنافسيْن مما دعا الصحافيين إلى تدخلات متكررة يرجوان المتناظرين أن يتفاعلا وأن يتقاطعا الحديث ويتساءلا. ولم يحدث ذلك إلا نادرا والسبب فيه تقييد المرشحين بتسعين ثانية أو بدقيقتين وبسبب طبيعة الأسئلة المعدة سلفا وتبويبها. ويكون التفاعل بين المتحاورين في الحديث عن نفسيهما وعن الخطاب بينهما بسبل متعددة، كما ذكر شارودو، أهمها تجاهل أحد المتحاورين الآخر أو تصحيح كلامه أو المراوغة في الجواب أو رد الحجة نفسها على صاحبها، وهي أساليب كان من الصعب استخدامها في حوار قائم على أسئلة جاهزة قبل الحوار تكون الأجوبةُ عنها مقيدة بوقت لا يقبل زيادة ولا نقصانا. فليكون هناك تفاعل بالتجاهل ينبغي أن تكون هناك أسئلة يطرحها أحد المتناظرين على الآخر وكذلك المراوغة تقتضي سؤالا يطرحه أحدهما على الآخر فيعجز عنه الآخر فيراوغ، وقلب الحجة على صاحبها تقتضي جوابا عن سؤال ضمني يدحض فيه أحد المتحاوريْن كلام منافسه، وهي أمور لم تحدث. بقي التصحيح وهو أسلوب لا يقتضي بالضرورة سؤال أحدهما وقد صحح قيس سعيد كلام نبيل القروي في ثلاث مناسبات. كان تفاعلا ضعيفا بين المتحاوريْن بسبب الأسئلة الصارمة المعدة مسبقا وهو وضع يحرم الصحافي من تجاوز بعضها أو تعديلها أو طرح أخرى بالنظر إلى جواب المحاور. وإن بدا أن أحد الصحافيين بادر إلى ذلك فلأن فريقا من المشرفين في الغرفة الفنية، يعمل تحت إشراف هيئة السمعي البصري وهيئة الانتخابات، أوعز له بذلك في السماعة. في الدقيقة التاسعة بعد المئة سأل نبيل القروي إن كان الحديث عن استطلاعات الرأي جائزا فلم يجبه أحد فانطلق في استعراض المراكز التي حققها حزبه، قلب تونس، قبل الدورة الأولى من الانتخابات التشريعية حتى استوقفته الصحافية بعد خمس وعشرين ثانية طالبة منه ترك الحديث عن الاستطلاعات، وتلك حجة على أن الصحافيين كانا يتلقيان توجيهات لا في الأسئلة فقط بل في تفاعل المتناظرين. وكان التفاعل ضعيفا كذلك لأن الأسئلة مبوبة بطريقة يُسأل فيها أحد المرشحين سؤالين متتالين فتفوت الآخر فرصةُ التفاعل مع السؤال الأول لمنافسه وقد يدرك السؤال الثاني غير أنه ما إن يفعلْ حتى يُوعَز إليه بترك التفاعل إلى نهاية المحور أي إلى ما بعد عشرين دقيقة. وكيف يمكن التفاعل مع كلام متعدد المستويات قيل بعضه قبل عشرين دقيقة جوابا عن حزمة من الأسئلة؟ هل التفاعل المؤجل تفاعل؟وكان ضعيفا أيضا لأن تقييد المرشح بتسعين ثانية أو ضعفها يجعله مركزا على جوابه لأن الصحافيين يحرجانه إن هو أجاب في أقل من الوقت المحدد بقولة حفظها المشاهدون “ما زال لديك وقت” حتى يصبح المطلوب ليس جوابا عن السؤال بقدر ما هو الجواب عنه في تسعين ثانية لا تزيد ولا تنقص. لقد نظر المشاهدون منذ المناظرات الأولى في الدورة الأولى بعين السخرية إلى من لم يستوف الوقت في الجواب. ويبدو أن التقيد بالوقت أثر في عمل مساعدي المرشحين بالانكباب على الاستعداد لأسئلة المحاور الأربعة أولا، إذ كانت التوجيهات صارمة في الاجتماعات التي سبقت المناظرة في شأن التقيد بالوقت وكانت مدونة في وثائق تسلموها تقول إنه “يُفسح المجال للمتناظريْن للتفاعل حول برنامجيهما وتكون الإجابة في دقيقتين”. هي رؤية توحي بأن الأصل في الحوار ألاّ يكون فيه تفاعل وأن هيئتي الإعلام والانتخابات تكرمتا على الصحافيين والمتناظرين بذلك. الحوار عمل صحافي ولا يمكن للمؤسسات، صحافية كانت أم غير صحافية، أن تحل محل الصحافي لإنتاج مضامين إعلامية. كانت فرصة تاريخية بأتم معنى الكلمة، إذ لم يسبق أن شاهد نحو ستة ملايين تونسي برنامجا على القناة التلفزيونية العمومية، للانطلاق في بناء برامج حوارية جيدة تخضع للمقاييس الصحافية وتقنع التونسيين لا أن تخضع لحسابات مؤسستين لا تفقه إحداهما من الإعلام شيئا. كانت فرصة ليقطع الصحافيون، وخاصة منهم العاملين في القطاع العام، مع الكسوة المنمطة التي أُلبِسوها على امتداد سنوات بل عقود جعلت كثيرين ينظرون إليهم عجزة. كان بإمكانهم في تلك المناظرة قبل غيرها، بل دون غيرها، أن يقدموا الدليل على مهنيتهم وقدرتهم على الحياد والنزاهة والاستقلال والمسؤولية. ويصعب إظهار ذلك بتلقينهم الأسئلة التي عليهم أن يطرحوها في حوار تلفزيوني… فماذا بقي لهم؟ مهم إخضاع مناظرة بذلك الحجم والوقع إلى ضوابط صارمة بحثا عن التكافؤ بين المرشحين، غير أن التفاعل لا يُبرمح ثمّ إن محاولة فعل ذلك تكبّله والتكبيل يقتله.

مشاركة :