لم يكن في الأردن وزارة للتعليم العالي وكان يحتضن جامعتين لعبتا دورا محوريا في النهوض بمستوى التعليم العالي ليس في المملكة فحسب بل في كثير من دول العربية.كانت اللجان الملكية ومجالس الأمناء التي ورثتها تضطلع بمهام الإشراف والتوجيه لإدارات الجامعتين المتعاقبة، وكانت تعمل هذه المجالس مع رؤساء الجامعات والإدارات التنفيذية بتناغم وانسجام ملفت. لم يلمس الأردنيون غموض في منهجيات العمل والإدارة ،ولم تشهد الحكومات أو حتى أعضاء الهيئات التدريسية والإدارية في هذه الجامعات تنازع في السلطات والصلاحيات أو تضارب في الأهداف والغايات رغم الأوزان القيادية الكبيرة لرؤساء الجامعات ورؤساء مجالس الأمناء.كانت تتغير الحكومات بتكرار وأيضا كان يتغير رؤساء الجامعات ولكن بوتيرة اقل ولكن مسيرة الجامعات كانت دوما صاعدة وتسجل مزيدا من التقدم والانجاز.لم يكن المال والتمويل مشكلة كبيرة ليس بسبب الوفرة والملاءة المالية ولكن بسبب أن التعليم العالي كان أولوية(Priority) للملك والحكومة حيث كان التدفق النقدي في مواعيده وكان الدعم يصل الجامعات من الخزينة مباشرة دون مراوغة أو التفاف.بعد تأسيس وزارة التعليم العالي عام 1985 وحشد جيش جرار من الموظفين لتسيير أعمال الوزارة أصبح جزء معتبر من مخصصات التعليم العالي يذهب لتمويل العمليات الإدارية وجيش الموظفين في الوزارة. فرضت ضرائب باسم الجامعات وكان يدفع الأردنيون، عن طيب خاطر، ضريبة جامعات على معظم معاملاتهم الإدارية الرسمية.لم يكن هنالك تذمر من الأوساط الجامعية أو من الأوساط الشعبية حيال أداء جامعاتهم لأنهم كانوا يلمسون نواتج أدائها ومخرجات عملها.استمر الأداء الايجابي للجامعات طيلة فترة الثمانينات وحتى أواخر التسعينات من القرن المنصرم حيث بدأ التراجع وبدأ تناقص التمويل وبدأت الحكومات تستخدم مئات الملايين التي كانت تجمعها باسم الجامعات لتمويل الخزينة بدل استخدامها حصريا لإغراض الجامعات.تزامن تناقص الدعم مع تكاثر الجامعات الرسمية وتراجع مخصصات كل جامعة وتحكم الحكومة في الرسوم الجامعية.المرحلة الأخطر والأكثر سلبية في مسيرة التعليم التالي تمثلت بتخلي الحكومات عن إبقاء التعليم التالي أولوية لها وتجسد ذلك من خلال التدخل الحكومي في إدارات الجامعات وتعيين رؤسائها ومجالس الأمناء فيها حيث أصبح المعايير السياسية والاتجاهات الشخصية لهذه القيادات هي الأساس وأصبح مجلس التعليم العالي ووزير التعليم العالي وأمين عام الوزارة عبارة عن أذرع حكومية تمارس مهامها بعيون رسمية سياسية بدلا من عيون واطر أكاديمية مهنية.لعل أسوأ ما شهدته مسيرة التعليم العالي هو كثرة التغييرات الوزارية ،وما يتبعها من تداعيات وأثار في التغير في منهجيات العمل والرؤى وبوصلة التوجه. يشعر العاملون في الجامعات كما غيرهم أن كل وزير يأتي يبدأ وكأنه يريد تأسيس وزارة جديدة ويشرع في إعادة النظر في القوانين والتشريعات على الرغم من حداثتها. الوزير المستقيل السابق وليد المعاني عدل قانوني التعليم العالي والجامعات الأردنية قبل مضي عام واحد على نفاذهما، ووضع نصب عينيه تغيير مجالس الأمناء ورؤساء الجامعات الذين هم أيضا لم يمضي على تعيينهم سوى سنة ونيف ،ولكن التعديل الوزاري الأخير لم يمهله طويلا لتحقيق ما أراد.الملفت في إدارة الوزير المعاني كان ذلك التحول الذي لمسناه بعدم حرصه على استقلال الجامعات حيث شعر العاملون في الجامعات تدخلا سافرا من مجلس التعليم العال الذي كان يقوده معاليه من خلال التعاميم التي دعت إلي إيقاف الإبتعاث ومحاصرة الإدارات الجامعية من أجل تعيين المتعطلين عن العمل من حملة شهادات الدكتور .الأهم من ذلك تجاوب الدكتور المعاني مع ميول وزير العمل لتوسيع صلاحيات الوزارة للتحكم في تصاريح العمل للأساتذة المستقدمين من الدول العربية للعمل في الجامعات ودعوته إلى إحلال بعض المتعطلين من حملة الشهادات العليا الذين مارسوا ضغوط سياسية مهولة على الحكومة محل الأساتذة العرب في الجامعات الأردنية.وقد ذهب الدكتور المعاني لأبعد من ذلك بصمته إن لم يكن بتأييده لتنتقل صلاحية تعيين المدرسين في الجامعات إلى ديوان الخدمة المدنية مما كان سيجهز إجهازا تاما على ما تبقى من جودة من التعليم العالي.وهنا نتساءل يا ترى ما الذي تغير على خلفية ورؤى الدكتور المعاني ،الذي عهدناه في وزارات سابقة وكرئيس سابق للجامعة الأردنية ،متشددا ومنافحا عن القيم المهنية والأكاديمية العليا للتعليم العالي!كيف يمكن أن يقبل الدكتور المعاني أن يوقف الإبتعاث إلى جامعات عالمية متميزة مثل ستانفورد وسيراكيوز وميتشاغن ولندن وواشنطن ليستبدل خريجوا هذه الجامعات بخريجي جامعات افريقية وآسيوية حصلوا على شهاداتهم بالتراسل وبدون دراسة مواد ووفق متطلبات رخوة ومتساهلة ؟ والسؤال الأهم هل سنشهد تغييرا موازيا أو مغايرا للوزير الحالي! الدكتور محي الدين توق سجل استهلالات إيجابية مبشرة في الأيام الأولى من عمله بتصريحات تؤكد على استقلالية الجامعات وانه لا يوجد نوايا مسبقة أو استهداف لتغيير القيادات الجامعية. التساؤل المشروع هنا هل سيستمر هذا النهج لأكثر من شهرين أو ثلاثة! وهل سيأتي وزير آخر لينتهج نهجا مختلف!.التعليم العالي وزارة مهمة وينبغي أن لا تشهد تغيرات في أهدافها بعيدة الأمد، كما أن سياساتها ينبغي أن تشهد استقرار وأن يقتصر التغيير على الآليات والأساليب المستخدمة في تحقيق الأهداف الإستراتيجية.جامعاتنا في حالة ترقب وإرباك وعدم استقرار ناجم عن تغيرات وزارية تعصف بالمنجز، وتخلق حالة من الشك وعدم التأكد في أوساط العاملين في الجامعات الأردنية.نعتقد أنه على الحكومة ،أي حكومة، أن تحرص على تنفيذ ما ورد في الإستراتيجية الوطنية للموارد البشرية التي تشكل أرضية مناسبة للنهوض ليس فقط بالتعليم العالي ،ولكن بالتعليم الأساسي وما قبل الأساسي.إن الالتزام بتنفيذ هذه الإستراتيجية كفيل بأن يخفف من غلواء وميول وزراء التعليم العالي المتعاقبين الذين يتخذون من هذه الوزارة ساحة لإبطال جهود بعضهم البعض ،والتضحية بتراكمية الانجاز من اجل فرض أجنداتهم ورؤاهم الجدلية حول ما يجب أن يكون عليه مستقبل التعليم العالي في الأردن. كفى تخبطا فقد بلغ الأمر مبلغه وأصبح وقف التراجع والانحدار في نواتج التعليم العالي ضرورة وطنية ونعتقد أن اعتماد الإستراتيجية الوطنية للموارد البشرية كخطة (Blueprint)لتطوير التعليم العالي يمكن أن يخفف من التقلبات والانعكاسات السلبية لكثرة تغيير وزراء التعليم العالي على عمل الجامعات وتشريعاتها وأدائها وضوابط عملها.
مشاركة :