السينما الفلسطينية ليست نوعًا واحدًا، جنسية المبدع تتقاطع مع ثقافته، والمكان الذى تُطل منه دراميًّا يلعب دورًا محوريًّا، الرؤية السياسية ليست مطلقة، من الممكن أن تُغلف بـ(التابو) الرقابى، وتحديدًا فى عالمنا العربى الذى يتشدقون فيه دومًا بإيمانهم بحرية التعبير، بينما عند أول ممارسة إذا لم يعتقلك، لو كنت حسن الحظ، يكتفى بمصادرتك، حتى تصبح عِبرة لمن تسول له نفسه بتصديق (أوكازيون) الحرية. الفلسطينى الضغوط عليه مضاعفة، تراه بأكثر من حالة طبقًا لمحل إقامته، شرقًا أم غربًا، جنوبًا أم شمالًا، الكل عليه أن يعلن وبكلمات لا تحتمل اللبس نفس التوجه الذى تتبناه السلطة الحاكمة، هناك ثمن باهظ يجب أن يدفع. لدينا مثلًا من يعيش داخل إسرائيل ويحمل الجنسية الإسرائيلية بينما هو فلسطينى ولكنه لا يتمتع بحصانة وطنية ليس معترفًا به حتى فى إسرائيل، وفى عدد من الدول العربية وبينها مصر لا يستطيع أن يدخل بجواز السفر الإسرائيلى المسموح به للسياح، ولدينا نموذج صارخ للفنان محمد بكرى الذى قد تشارك أفلامه الفلسطينية فى العديد من المهرجانات المصرية، ولكنه غير مسموح له بعبور الأراضى المصرية، لدينا فلسطينى رام الله داخل السلطة الفلسطينية، وهو يستطيع المجىء ولكننا لا نتمكن من الذهاب إليه وإلا سوف تُتهم، سواء كنت صحفيًا أو فنانًا، بالتطبيع، جواز السفر المصرى يعرض على نقاط التفتيش الإسرائيلية، وهى التى تمنح التأشيرة، وهو فى عُرف كل النقابات المهنية فى مصر وفى أغلب البلدان العربية يعد تطبيعًا مع العدو، لدينا فلسطينى يعيش فى غزة، المحاصر من إسرائيل والمتهم بتصدير الإرهاب والتطرف، وهناك فلسطينى يسكن على أرض عربية يلتزم تمامًا بسياسة الدولة المضيفة، لأن العقاب فى هذه الحالة يصل للطرد، ثم الفلسطينى المقيم فى أوروبا وأمريكا يحمل قطعًا ثقافة مغايرة فى تعامله مع الإسرائيلى، لا يراه صديقًا ولكنه لا يعتبره أيضا عدوًّا، يفرق بين الإنسان والدولة، تفاصيل تفرض نفسها فى الرؤية التى تتناول الأفلام الفلسطينية. تجدر الإشارة إلى أن الفيلم يحصل على الجنسية، ليس بمكان إقامة المخرج، ولا بطبيعة جواز السفر الذى يحمله، ولكن بشركة الإنتاج وأين تقع، وفيلم (بين الجنة والأرض) طبقا لهذا التوصيف إنتاج مشترك بين فلسطين وأيسلاندا. فلسطين بعين فلسطينية تقيم فى دولة أوروبية، أى تتمتع برحابة فكرية فى التعبير بدون قيود مسبقة، الفيلم يقع فى إطار (سينما الطريق)، يتيح للكاتبة والمخرجة نجوى النجار أن تتنقل بين عدة أماكن وتلتقى بكل أنماط البشر، الفيلم قائم على تلك القراءة فى الزمان والمكان، فهى وزوجها فى طريقهما لكى يصبحا طليقين، تنتقل من السلطة الفلسطينية إلى الناصرة إلى إسرائيل، وتجوب فى فلسطين المحتلة التى صار التعبير الأوفق واقعيًا الآن هو فلسطين التاريخية، لأن الكل تخلى عن حلم مقاومة الاحتلال.. فى الطريق للبحث عن الجذور نتأكد قطعًا من التاريخ، ولكنه يفتقد القوة التى تفرض العدل، أوراق يجب إحضارها من (الناصرة) حتى تتم إجراءات الطلاق، وذلك بسبب التباس فى اسم الأب، والد زوجها، إقامته ومولده وديانته، نتحسر على البيت الفلسطينى الذى يقطنه إسرائيلى. السيناريو لا يتوقف كثيرا أمام عمق البرود العاطفى الذى فرض نفسه بين الزوجين، والذى دفعهما لرحلة الطلاق التى تتحول لرحلة اكتشاف للوطن وللذات، لا يهم كثيرا تلك التفاصيل، فهو يطل على الحياة من خلال السيارة العتيقة التى تحمل أيضا كل هموم وإحباطات الزمن ومن ثم الوطن. يصلان البيت المحتل، هو البيت الذى نشأ فيه الأب الذى كانوا يبحثون عن جذوره وهويته، وفى النهاية يتوجهان إلى مقابر المسيحيين، الأديان تلعب دورا فى نسيج الفيلم.. هناك اليهودى الفرنسى واليهودى العربى.. ليست أبدًا مشكلة دين ولكن توجُّه يحيل الدين إلى وطن، دلالة الوطن حاضرة جدًّا، البيوت لا تزال محتفظة بطابعها العربى، وفى كل التفاصيل الخاص يصبح عامًا، يلتقيان بسائح فرنسى يهودى وزوجته، تتعطل سيارته فيصبح لزامًا عليهما توصيله، ولكن غير مصرح لهما باصطحاب إسرائيليين، يعاجلهما قائلا إنه يهودى وليس إسرائيليًّا، ويستقلان معهما السيارة، وفى صالون السيارة بعد خلاف بسيط يتبادلان قبلة طويلة، وكأنهما يقولان بالطريقة الشامية (الكلام إلك يا جارة) وذلك حتى يتصافيا، ونصل بالسيارة من الأرض التى احتلت فى 48 إلى الأرض المحتلة فى 67 (الجولان) السورية، والتى لم يعد الخطاب العربى الرسمى السياسى يتذكر هويتها، بينما إسرائيل بكل تبجح تعتبرها جزءًا من إسرائيل الكبرى.. الأوراق لاتزال تتشكل من خلال هذا البحث الميدانى عن هوية الأب وهوية الوطن والوصول إلى حافة الحقيقة.. كان هو أيضا الدافع لإبعاد قرار الطلاق. لم أرتح فى الفيلم للعب بالأرقام فى أوراق القضية مثل 48 أو 67 تلك الرؤية المباشرة والتى تشير إلى سنوات الاغتصاب الإسرائيلى، أعتبرها مجرد (قفشة) لم يكن الفيلم بحاجة إليها. فلسطين هى مملكة الجنة، وهم اغتصبوا الأرض وبقيت الجنة فى ذاكرة الفلسطينى، ومن هنا جاء عنوان الفيلم «بين الجنة والأرض»!.
مشاركة :