الصحافيون يلاحقون الخبر في دهاليز الحكومة التونسية

  • 12/4/2019
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

يتعامل السياسيون والمسؤولون في تونس مع أخبار المشاورات لتشكيل الحكومة على أنها نوع من الترف الذي يمنّون به على الصحافيين، في حين أنه لزاما على المسؤولين تكليف شخص مهمته الخروج إلى الصحافيين بعد كل لقاء لإطلاعهم عمّا جرى ليعرضوه في أخبارهم على الجمهور المترقب. تونس – “كان الله في عوننا وفي عون تونس”، جملة قالها المرشح السابق للانتخابات الرئاسية، لطفي المرايحي، للصحافيين وهو يغادر قصر الضيافة، في 21 نوفمبر2019، بعد اجتماعه مع رئيس الحكومة المكلف الحبيب الجملي. ولمّا لاحقه الصحافيون حتى سيارته بحثا عمّا يمكّنهم من أداء واجبهم الإخباري، زاد المرايحي الأمور تعقيدا بقوله، متجهّما، “بارك الله فيه، أكرم وفادتنا وأسقانا الشاي”. في اليوم نفسه وفي المكان نفسه كان للناشط السياسي صلاح الدين الجورشي بعد لقائه مع الشخص نفسه رأي آخر “للجملي صفات نستحقها في هذه المرحلة تتمثل في القدرة على الإنصات… ملامح الحكومة بدأت تتشكل لديه وإن لم يحدد أعضاءها بعد”. فما الذي فهمه التونسيون يومها عندما نُقل إليهم كلام الرجلين في مختلف النشرات الإخبارية؟ لا شيء يمكن اعتباره خبرا. سيَفهم عدد منهم أن للرجلين، في أفضل الأحوال، تقديرين مختلفين عن سير المشاورات لتشكيل الحكومة التونسية، وعدد آخر أن الأمور تسير من سيّئ إلى أسوأ. وستفهم فئة ثالثة تنقسم إلى فريقين غير ذلك، فريق يرى أن المرايحي على حق وفريق أن الجورشي على حق، وبين الفريقين لفيف يسخط عليهما وعلى الصحافيين والسياسيين أجمعين. فمن المسؤول عن ذلك؟ هل أخلّ الصحافيون بواجبهم المهني؟ نعم، لقد فعلوا مُكرهين. لقد أخبر الصحافيون عن مجريات أحداث في أخبار ذكروا فيها نتائج ما جرى، أي رد فعل الرجلين، دون ذكر أسباب ما دار بين كل واحد منهما ورئيس الحكومة المكلف، مما جعلهما يقولان ذلك الكلام. ويعلم الصحافيون أن صياغة الخبر تقوم على سرد الوقائع بالمراوحة بين ذكر النتائج ثم الأسباب، الأمر الذي جعل لبناء الخبر اسما يتداوله أهل الاختصاص وهو الصلة التعاقبية أو الدائرية محاكاة للتسمية الأصلية، في غير الخبر، وهي الصلة السببية. لم يخبر الصحافيون عن المشاورات التي هي محطّ اهتمام الناس بل عن نظرة رجلين إلى ما يجري من أمر مهم. نظرة المرايحي والجورشي، وغيرهما ممّن يزورون رئيس الحكومة المكلّف، تفاصيل الأصل والأصل فحوى المشاورات أي ما قاله الرئيس المكلف وردود ضيوفه. يصاغ الخبر السليم، بإجماع المهنيين منذ قرنين، بالتركيز على الأصل ثم الفروع إذ لا يدرك العقل التفاصيل إلا بإدراكه جوهر الأصل أولا. كيف نطلب من الصحافيين أخبارا سويّة ونمنع عنهم أسباب النتائج؟ وهل هناك أخبار بذكر النتائج دون ذكر الأسباب؟ قد يحدث في مجالات لا يسأل فيها المتلقون عن الأسباب لأنها معلومة أو مفترضة كالحديث عن زلزال أو عن هطول المطر، وإن كان المهنيون يذكرون أن سبب الزلزال مثلا هو انزلاق أرضي. قد نقبل الإخبار عن وفاة مسن في التسعين دون ذكر السبب لكن لا أحد يقبل خبر وفاة شاب في العشرين دون ذكر سبب موته. لماذا خرج المرايحي من اللقاء غاضبا متجهّما ساخرا بمرارة؟ وحتى لو أجاب يومها عن السؤال “لماذا” ما كان يُقبل منه لأنه سيكون مرة أخرى تقييما لما جرى في الجلسة وليس إخبارا عنه. فلا هو دوره ولا هو دور رئيس الحكومة المكلف بل دورهما معا كما هو معمول به في بلدان تلتزم بحق المواطنين وبواجب الصحافيين بإصدار بيانات مشتركة أو بعقد ندوات صحافية. إن الإخبار عن المشاورات كما يجري في تونس يدل على أننا قبلنا أن يكون الأهم في الأمر هو توزيع المناصب دون الاهتمام بقضايا الناس وبما تعانيه البلاد من مشاكل خانقة. قبلنا ألاّ يكون الأهم ملفَّ الصحة بل من يكون وزير الصحة ولا النقل بل من يكون وزير النقل ولا الشغل ولا التعليم ولا التجهيز… فتُختزل حلول مشاكل البلاد في أشخاص وأحزاب لا في برامج. قبلنا أن الأهم ليس “ماذا نفعل” بل “من يفعل” حتى إن لم يفعل. الندوات التي درجت على عقدها مؤسسات البلدان الديمقراطية هي من صميم الديمقراطية التي تقتضي أصولها وأعرافها وقوانينها من الإعلام إنارة المواطنين ومن الحاكم واجب الشفافية ليؤدي الإعلام ما عليه أبجديات يعمل بها الصحافيون شرقا وغربا منذ أكثر من قرنين تفتقر إليها الصحافة التونسية اليوم بفعل الحكام أولا. إنه لمن المؤسف أن تجري في دار الضيافة مشاورات عن تشكيل الحكومة لا يعلم عنها التونسيون شيئا. كان لزاما على المسؤولين هناك تكليف شخص مهمته الخروج إلى الصحافيين بعد كل لقاء لإطلاعهم عما جرى لتكون بين أيديهم النتائج والأسباب حتى عندما يعرضونها في أخبارهم يفهم الناس ذاك الذي جرى. قد يُخيل إلى بعض العقول المتكلسة إعلاميا واتصاليا أن الندوات التي درجت على عقدها مؤسسات البلدان الديمقراطية هي ندوات من قبيل اللهو واللعب والحال أنها من صميم الديمقراطية التي تقتضي أصولها وأعرافها وقوانينها من الإعلام إنارة المواطنين ومن الحاكم واجب الشفافية ليؤدي الإعلام ما عليه. أيظنونها منّة يمنّون بها على الناس؟ لمّا يخلّ الحاكم بواجبه في هذا المجال يحمِّل الصحافيين وزر إخلاله. إن إيراد “أخبار” هي إلى الأوهام أقرب يعطل عمل الصحافيين بل يجرهم جرا إلى الخطيئة الصحافية. فنشر “الأخبار الأوهام” عمّا يجري في المشاورات دون أدنى كلمة عمّا يقال فيها بين رئيس الحكومة المكلف وضيوفه يقود الصحافيين المعلّقين إلى الافتراض والتأويل. فالحديث في بلاتوه تلفزيوني أو إذاعي عن الشاي الذي شربه المرايحي في قصر الضيافة يقود حتما إلى محاولة التكهن بما جرى. وليست الصحافة كهانة بل هي نقيض ذلك تماما باختصاصها في نقل الوقائع وتفسيرها والتعليق عليها. وفي مثال المشاورات الحكومية لا يعلق المعلقون على وقائع، وإلاّ لكان الأمر مفهوما ومطلوبا، بل يعلقون على ما هو مجهول. ونتجاوز هنا منطق الصحافة الذي يعود إلى أكثر من قرنين لنتدحرج إلى أعماق التاريخ عندما كان الفلاسفة الإغريق وبعدهم المتكلمون عند العرب وغيرهم قبلهم وبعدهم ينظّرون إلى أن الاستنتاج لا يكون إلاّ بناء على ما هو معلوم وثابت. إنه وضع مؤلم فعلا أن يصبح “الإخبار” لا نشر وقائع بل نشر ما يراه الجورشي أو المرايحي عن الوقائع. يلام على الصحافة اللاتينية، الفرنسية والإيطالية والإسبانية…، مقارنة بالصحافة الأنكلوسكسونية، أنها لا تكتفي بإخبار المتلقين فقط بل بتوجيههم إلى ما ينبغي أن يفهموه عمّا أخبرتهم عنه. صحافتنا ذهبت إلى ما بعد ذلك بأن تقول للناس ما الذي ينبغي أن يفهموه ممّا لا يعلمونه. ويساهم هذا الوضع في مفارقة يعيشها التونسيون وهي سخطهم على عدد من المعلقين ومتابعتهم لهم في آن. هو وضع يعطل صحافيي الميدان ويشعرهم بكثير من الغبن ويحمّلهم ذنب ما لم يجترموا. لا يدرك المتلقي خبايا الأمور فيتحامل على الإعلام وهو وضع قد يُكسب بعض المعلقين وجاهة بما لهم من علاقات مع سياسيين يمدونهم بما يمنعونه عن صحافيي الميدان. ويذكر كثير منا حال صحافتنا قبل 2011 عندما كانت تشن هجومات على مؤسسات أو أشخاص في مقالات وبرامج إذاعية وتلفزيونية، والتونسيون يجهلون سبب ذلك حتى يكتشفوا بعدها أن المستهدف كان صحيفة لوموند مثلا وأن السبب هو أنها فتحت أعمدتها لأحد المعارضين. تختلف الأهداف والنوايا بين الأمس واليوم غير أن النتيجة واحدة وهي صحافة لا تخدم المواطن ولا تخدم العيش المشترك. هي صحافة تُجبَر على أن ترى الفرد رقما لا مواطنا. وليس حجب الأخبار حكرا على المشاورات الجارية الآن لتشكيل الحكومة أو طارئا بل هي ممارسة قائمة في مختلف المؤسسات يعيشها الصحافيون يوميا ويؤجلون أحيانا مواضيع بسبب تلك الممارسات. ويحدث أن يتخلوا تماما عن فقرات إخبارية في نشراتهم أو برامجهم الأخرى. ماذا لو فعل الصحافيون ذلك في تغطية مشاورات تشكيل الحكومة؟ لقد تحدث المرشح قيس سعيّد على عجل في المناظرة التي جمعت بينه وبين المرشح نبيل القروي يوم 11 أكتوبر عن ضرورة تنظيم مصالح الاتصال الحكومي، في جملة اعتراضية، لم يقف عندها أحد في البلاتوه. في المشهد الإعلامي الاتصالي مرض ينخره لا يُنتبه إليه إلاّ نادرا. ليس المكلف بالاتصال في الحكومة داعية لرئيسها ولا معلنا عن بضاعة يبيعها بل هو مكلف بمد المواطنين بما للحكومة من معطيات ينتج منها الصحافيون أخبارا. كان على قيس سعيّد أن يطلب ممّن كلفه بتشكيل الحكومة أن يحرص على مد التونسيين بما يجري في المشاورات فذاك حقهم. فكيف ننتظر مصالح اتصال حكومية فعالة تخدم المواطنين في الشؤون اليومية، بتسهيل عمل الصحافيين، إذا أحيطت المشاورات بذلك التكتم وهي مشاورات تتعلق بخمس سنوات من مستقبلهم؟ إن كل مؤسسة عمومية تسعى لإخفاء المعلومات فاشلة لأن المعلومات كما يدل عليها اسمها جُعلت ليتقاسمها الناس. ذاك فارق من الفوارق الرئيسية بين قوة الصحافة الأنكلوسكسونية، والأميركية تحديدا، ووهن غيرها. المعلومة ملك عام مشاع لا يملكها أحد بل الجميع. هي عندهم كالطريق لا يستأثر به أحد إلاّ في ظروف قاهرة لا يُقدر عليها لوقت وجيز مع توفير البدائل لذلك. عندنا تتشابه أحيانا كثيرة معلوماتنا وطرقاتنا. في قصته “من الأرض إلى القمر” يقول جول فيرن “ما إن تخطر لأميركي فكرة حتى يسارع إلى البحث عن ثان ليتقاسماها. وما إن يصبحوا ثلاثة حتى ينتخبوا رئيسًا واثنين من الأمناء. وإن صاروا أربعة يختارون مكلفا بالأرشيف فينطلق المكتب في العمل…”. كان جول فيرن يتحدث في كتابه الذي نشره عام 1865 عن الاستعداد للصعود إلى القمر قبل أكثر من قرن من حدوثه. كان عقله في خياله الأدبي العلمي أكثر رجاجة من كثير في واقعهم.

مشاركة :