الثابت والمتحول بين أدونيس وطه حسين

  • 12/22/2019
  • 00:00
  • 8
  • 0
  • 0
news-picture

لنبدأ أولاً بالأصل المعرفي مغفل الإحالة. جدلية الثابت والمتحول أو بلغة مؤسس علم الاجتماع أوغست كونت: الثابت (statics) والمتحول (dynamics). للوهلة الأولى قد لا يبدو إغفال أدونيس الإشارة إلى هذا الأصل شديد الأهمية لولا أنه يذكرني بكتاب “ألوان” لطه حسين الصادر عن دار المعارف عام 1952، وهو يشتمل على دراسة عنوانها “الأدب العربي بين أمسه وغده”، يحتل فيها أوغست كونت موقعاً مركزياً من حيث تطبيق طه حسين لجدلية عالم الاجتماع الفرنسي في الثابت والمتحول (أو المتغير) على الأدب العربي. هذا التطبيق ينطلق من موقع حديث. أما تطبيق أدونيس فهو لا ينطلق من موقع حديث أو حداثي (modernist) كما هو متوقّع، بل يضفي على قراءته المرآوية لما يدعوه بتأصيل الأصول، غلالة لاهوتية المنزع يفصح عنها تحديده لمعنى الثبات والتغيير. وقبل أن نتفحص خصائص هذه الغلالة ودلالاتها دعنا نوضح كيف تعامل أوغست كونت، مبتكر علم الاجتماع (sociology) (1798 – 1857) مع مفهومي كل من الثبات والتغير. يقرأ أدونيس التاريخ الثقافي العربي الإسلامي قراءة مرآوية موازية وعاكسه وهو بذلك يقترب من وضعية عالم الاجتماع الفرنسي التي ترمي إلى تشييد قوانين عامة أو نظريات تعبّر عن العلاقات بين مختلف وجوه الظاهرة. وتبين الملاحظة والتعامل مع هذه الوجوه ما إذا كانت الظاهرات تتصل أو لا تتصل بالنظرة المقترحة، أي أنها تحاول أن تكشف عن مدى صوابيتها. وأحد مفاهيم سوسيولوجيا كونت الأساسية كما هو معروف، مفهوم المراحل الثلاث الذي يساجل بالقول إن الفكر الإنساني قد مرّ تاريخياً من الطور اللاهوتي عبر الميتافيزيقا ليصل إلى الطور الوضعي. وبهذا المعنى ينظر كونت إلى الفكر اللاهوتي باعتباره خطأ فكرياً نقضه ظهور العلم الحديث. وقد كان كونت هو الذي اقترح التمييز بين الثابت الاجتماعي (social statics) والمتحول (أو المتغير) الاجتماعي (social dynamics) الثابت الاجتماعي يمثل السعي للوصول إلى قوانين التعايش بينما يسعى المتحول أو المتغير الاجتماعي إلى تفعيل قوانين التغير التاريخي. ويبدو أن ما يفعله أدونيس الذي ينتصر لقوانين التغير التاريخي أو يفترض انتصارها، هو أمثلتها (idealization) أي تحويلها (بلغة توماس كون) إلى مثال ناجز أو إلى باراديم (نموذج مرجعي) مسيطر إلى حين. وقد نجح في ذلك إلى حد كبير، ولأسباب ليس هذا مجال التعرض لها، وتحتاج إلى وقفة أخرى. ولكن أدونيس الحداثي ظل من ناحية ثانية، متشبثاً بمرآوية طرحه، لمفهومي الثبات والتحول، متمسّكاً بما دعاه كونت بالفكر اللاهوتي المباطن لسردية تاريخية، سردية مهزوزة الصدقية. ويمكن القول بهذا الاعتبار إنه أخفق بمنظوره المرآوي في تحرير النص من النص. فكأنه يساجل لنقض النص الذي يدعوه بالنص الثابت باليسرى ليثبت نصاً آخر يدعوه بالنص المتحوّل، نصاً بديلاً باليد اليمنى. وهكذا يمكن القول إنه يخفق كحداثي بامتياز عندما يختزل الحضارة العربية الإسلامية التي يرى في الشعر لحمتها وسداتها، عندما يقلّصها إلى أحد منتجاتها أي يعدها “حضارة فقه” معبراً عنها بحجاجها، مقابل اعتبار الحضارة الأوروبية المعاصرة “حضارة علم وتقنية”. وهذا هو جوهر الاستشراق السلبي، ومصدر التنميطات السلبية (negative stereotyping) التي صارت لشدة تكرارها في سياقات أكاديمية وشعبوية أشبه بتمائم تختصر الأمر الواقع. والحال أن هذا الاختزال المخلّ للمهاد المعرفي للشعر العربي، والنظر إليه كحصيلة معرفية ثابتة لـ”حضارة فقه” مهيمنة بالوعي واللاوعي، يعني بلغة الأب بولس نويا، المشرف على مشروع أدونيس في الثابت والمتحول، أنه من المتعذر فهم سيطرة مفهومي الاتّباع والإبداع في الشعر العربي دون التحليل المعرفي الدقيق، وبالتالي “نقض” (وأنا أضع هذه الكلمة بين قوسين تعبيراً عن القول بأنها تباطن المشروع الأدونيسي برمته) الرؤيا الدينية التي يزعم أنها الرؤيا المكونة للكل الحضاري العربي. مهما فعلنا لن نفهم الماضي إلا من منظور الحاضر. وهذا ينطبق على الشعر العربي أكثر من سواه. ومما يلفت النظر أن جميع الجهود في تحديث التراث أخفقت حتى الآن في تغيير المراتب التي كان يحتلها الأدباء والشعراء والنقاد العرب منذ ألف عام يقول الأب بولس نويا في تقديمه لكتاب أدونيس الذي يخبرنا أنه كان يتمنى أن يكتبه بنفسه، يقول إنه أدرك “بعد تمرس طويل بالشعر العربي أن تاريخه لا يفهم إلا في ضوء دراسة تشمل الكل الثقافي العربي” وأنه “أدرك أن هذا الكل بدوره لا يفهم إلا بعد تحليل دقيق للمبنى الديني أو للرؤيا الدينية الشاملة التي كونت الكل الحضاري العربي”. وبعبارة أخرى فإن المحمول المعرفي لهذا المبنى الديني أو الكل الثقافي على حد تعبيره، لا بد لتفكيكه من سبر وتحليل الدين الإسلامي ورؤياه التكوينية الشاملة. وهذه المقاربة ذات النزوع التعميمي لا تحيلنا طائعين أو غير طائعين إلى خطاب مشائخي خلافي فحسب، بل تلحق الشعر، ثابته ومتحوله، بالفقه الديني، وتجعله تابعاً له. وبذلك يصير الشعر العربي بجميع مراحله معلقات وخمريات شعراً إسلامياً ثابته ملحق بالدين ومتحوله رد فعل مناقض أو مصحح له. وهذا ليس صحيحاً بطبيعة الحال، فالشعر العربي ليس شعراً دينياً أو متماهياً مع الدين، وهذا ما تشير إليه بوضوح دراسات أدونيس المتميزة للشعرية العربية وبخاصة (محاضراته في الكوليج دو فرانس، باريس، أيار 1984)، وتنقض بذلك هذا الطرح بكماله واكتماله. فإذا لم يكن الشعر العربي شعراً دينياً، ولم يكن الفقه الديني مباطناً له بالضرورة، فلماذا العودة التعميمية الجامحة أو النكوص المعرفي إلى مهاد ثقافي لا يمكن القول إنه معبر تحديداً عن “حضارة فقه”؟.. ولماذا اعتبار “الشعوبية” التي يرى أدونيس أنها مفهومٌ أطلق جزافاً على شاعر مهم هو أبو نواس، سمة مؤثرة بل تكوينية صانعة لما يدعى بـ”القانون” (canon) (المعتمد الأدبي) الذي يشمل جملة النصوص الأدبية المعترف بها، والمالكة لمشروعية الكاتب والمتلقي بدلاً من النظر إليها بوصفها رؤية أيديولوجية عابرة، أي غير مطابقة للواقع التاريخي؟ إننا مهما فعلنا لن نفهم الماضي إلا من منظور الحاضر. وهذا ينطبق على الشعر العربي أكثر من سواه. ومما يلفت النظر أن جميع الجهود في تحديث التراث أخفقت حتى الآن في تغيير المراتب التي كان يحتلها الأدباء والشعراء والنقاد العرب منذ ألف عام. ولأن الشعوبية مفهوم أيديولوجي، مورس من قبل طرفين ولم يمارس من طرف واحد، فإن من الممكن قراءته من منظور النقد الثقافي والنقض المعرفي، كمفهوم غير تقييمي، مفهوم ينطوي على فعل وردّ فعل، يتيح للباحث التمييز بين إيقاع الأدب والفكر وإيقاع الدين، والتذكير بأنهما غير متطابقين بل غير متماهيين. وماذا عن حلول الاقتصاد مكان النسب؟ يبين برنارد لويس في أطروحته حول أصول الإسماعيلية (الطبعة العربية كانون الثاني 1980-دار الحداثة)، وهي الأطروحة الأقرب إلى الموضوعية التاريخية والتي سبقت بعقود صدور كتابه “الإسلام والغرب”، الكتاب التحريضي والمغرق في الاستشراق السلبي، يبين أهمية الاقتصاد في قراءة تاريخ الإسلام الاجتماعي، يقول لويس إن “الثورة العباسية أوجدت مرحلة جديدة في تاريخ الإسلام الاجتماعي والاقتصادي: فقد أنتج انصهار الطبقات الحاكمة غير العربية واندماجها بالدولة العربية السنية، وازدياد التقارب والوحدة بين طبقات الرعية والموالي تقسيماً جديداً للطبقات، يعتمد على الاقتصاد أكثر مما يعتمد على النسب والعنصر كما كان في القرن الأول، تقسيماً مكّنه وعزّزه انتقال الخلافة من دولة زراعية عسكرية إلى إمبراطورية تجارية عالمية”. ويضيف أن هذا التغيير بدأ خلال القرن الثاني وقطع شوطاً بعيداً في القرن الثالث “فكان طبيعياً أن ينجم عن هذا التبدل العظيم في الأحوال الاجتماعية ونظام الطبقات استئناف تنظيم الحركات وتوسيعها، تلك الحركات التي تعبّر عن تمرد الطبقات والشعوب الرازحة تحت الظلم. وقد ولدت الظروف العصيبة في القرنين الثالث والرابع سلسلة من الثورات والفتن. ويمكن تسمية القرن الثاني بدور حضانة الثورات”. ولكن ما لا يقوله برنارد لويس ولا يشير إليه هو أن هذه الثورات أكدت بدورها على أن دور النسب في التاريخ العربي الإسلامي أعيد اختراعه مجدداً من قبل قادة هذه الثورات والفتن. وهذا يبدو واضحاً من تلفيقهم المعلن لأنفسهم شجرة وراثية تمنحهم مشروعية القيادة أي إعادة اختراع الدولاب الفقهي مرة أخرى. وتكمن المفارقة هنا في أن النسب نفسه كان مفهوماً شعبوياً مطاطاً باستمرار، رغم أنه شغل ويشغل نقطة المحرق في ادعاء القادة امتلاكهم لهذه المشروعية. لكنّ الأمر مع مفهوم الثابت والمتحول الأدونيسي يحوم من جهة أخرى في فضاء الأيديولوجيا المرجع الوحيد لجدلية الاتّباع والإبداع. ولأن الأيديولوجيا رؤية لا تطابق الواقع التاريخي فحسب، بل تمثل نموذجاً لوعي زائف، وبالتالي لا نقدي، فإن من الممكن السعي لتفكيك هذه الرؤية والنظر إليها من خلال المؤشرات التالية: 1- يرى بولس نويا أن ثمة نتيجة واحدة لرسالة أدونيس، نتيجة مفادها أن “العلاقة بين الثابت والمتحول لم تكن جدلية بل تناقضية أدت إلى العنف الذي به تغلّب الثابت على المتحول وقضى على كل محاولة قامت بها النزعة الإبداعية. وكانت نتيجة تغلب الثابت إعلان الوحدة بين اللغة والدين، بين الشعر والأخلاق، بين التراث الأدبي والتراث الديني بحيث عمّم مفهوم التراث الديني على التراث الأدبي، وانتهى العربي إلى الشعور أن لغته ودينه وكيانه القومي وحدة لا تتجزأ. وبما أن العامل الديني في هذه الوحدة كان الأقوى فهو الذي كيَّف الثقافة العربية”. لا بد هنا من أن نبدد التباساً: فالدعوى القائلة إن العلاقة بين الثابت والمتحول لم تكن جدلية بل تناقضية أدت إلى العنف؛ وربط هذه الدعوى بتغلّب الثابت على المتحول والقضاء على كل محاولة قامت بها النزعة الإبداعية، التباس مصدره الأساسي عدم التمييز بين مفهومي “الجدلية” و”التناقضية” إذا صح التعبير. فالجدل نفسه “الديالكتيك” قائم على مفهوم التناقض. وهو في الأصل منهج في التحقيق الفلسفي، منهج سقراط الذي طوره هيغل وماركس في ما بعد. وفي جميع الأحوال يشتغل الجدل عبر مفهوم التناقض نفسه. فحسب المنهج السقراطي كما هو معروف، توضع المشكلة أو الفرضية في موضع الفحص من خلال الاستفهام والاستجواب والاستطلاع بحيث تتبدد الأفكار الخاطئة المحيطة بموضوع البحث وتتكشف التناقضات على حقيقتها. وأما الجدل الفلسفي بمراحله الهيغلية الثلاث: الأطروحة والنقيض والتركيب، فلا يحتاج إلى إضاءة. فالتركيب الناتج عن التفاعل بين الأطروحة ونقيضها يسهم في ظهور تركيب هجين. ومن الواضح أن دعوى الأب بولس نويا، وفقاً لما تقدم، تتمركز حول نظرة استشراقية متطرفة ترى الحضارة أو الثقافة العربية الإسلامية فقط من خلال وجهها الفقهي. فهي كما تؤكد سجالات الكتاب، حضارة فقه محض. وكان الباحث المغربي محمد عابد الجابري قد ادعى الادعاء نفسه في كتابه “تكوين العقل العربي”. فنجده يقول “إذا جاز لنا أن نسمّي الحضارة الإسلامية بإحدى منتجاتها فإنه سيكون علينا أن نقول عنها إنها ‘حضارة فقه’، وذلك بنفس المعنى الذي ينطبق على الحضارة اليونانية حينما نقول عنها إنها ‘حضارة فلسفة’، وعلى الحضارة الأوروبية المعاصرة حينما نصفها بأنها ‘حضارة علم وتقنية’. كما كان أحمد أمين قد أشار في ‘ضحى الإسلام’ إلى أن فلاسفة الحضارة العربية الإسلامية، أمثال الفارابي وابن سينا وابن رشد كانوا كالمفوضية اليونانية في البلاد الإسلامية”. هذه الدعاوى الاستشراقية السلبية ربما كانت وراء زعم بولس نويا حول وجود نوعين من الجدل، الأول لقاء جدلي بالمعنى الهيغلي، يقابله لقاء صدامي آخر مختلف بين ثابت عربي إسلامي يتسم بالعنف ويمثل الاتّباع، وبين متحول مناقض له يمثل الإبداع. ولأن الشعر العربي كما يقرر، شعر يباطن الزعم بأن الحضارة العربية الإسلامية حضارة فقه تحديداً، فقد أمكنه القول خلافاً لمسار الأدب العربي المغاير بكليّته، أن قانون الغلبة أسفر عن هزيمة الإبداع لصالح الاتّباع. وفي ذلك يصل الأب نويا إلى القول “إن مأساة الثقافة العربية جاءت من عدم لقاء طريق التحول وطريق الثبوت لقاء جدلياً بل التقيا لقاء تناقض وعنف بحيث قضى الواحد على الآخر”. والحال أن هذا الكلام اللاهوتي المصدر والمنزع، يحيلنا إلى الأيديولوجيا بوصفها وعياً دوغمائياً بالواقع، وعياً زائفاً يستهدف تفكيك الدين (ربما لصالح طرح ديني آخر) من حيث زعمه تفكيك الشعر. فهو يفترض منذ البداية لزوم ما لا يلزم، ونعني بذلك أنه يرى ضرورة “التحليل الدقيق للمبنى الديني” أي تقديم تحليل مفارق غير مطابق للمسار الشعري نفسه. ومادام الدين في هذه الأطروحة الممثل النموذجي للثبات، فإن ربط الشعر العربي به يجعل القول -كما يفعل- باستعصائه على التغيير، أمراً قابلاً لتحويل الفرضية إلى حقيقة تاريخية. 2 - يمكن القول إن فرضية الثابت والمتحول التي تنطلق من منطلق التحديق في التراث الذي يمثل الشعر العربي بإيقاعاته المختلفة، لحمةً وسداة، التحديق به من منظور قانون غلبةٍ سياسي مبتذل، حكمٌ يحتاج إلى إعادة نظر. فوفقاً لهذا القانون اللاهوتي يصير الثبات نظيراً للثقافة، أو علماً على الثقافة يملي تقييم النقد على النصوص الأدبية إملاءً، فيصبح عمل الكاتب، دعك من طليعيته أو تميزه، دليل ثبات يسم ثقافة عربية بأكملها. هذا المصير الاختزالي، أو بالأحرى غلواء هذا المصير، التي ينتهي إليها سجال أدونيس، تحتاج في عصرنا الراهن إلى مراجعة حقيقية، إلى إعادة نظر تطفر بذاكرتي إلى إمكان الاستئناس بمقالة مهمة لإليوت الشاعر والناقد عنوانها “تأملات في الشعر المعاصر” (1919). هذا التدخل النقدي ربما يسهم في إعادة تعريف التقليد أو الاتّباع، واعتباره فعالية تعددية وليس أحادية، لأنها تتقاطع وتتطابق وتتناظر مع الإبداع في أكثر من منعطف أو مثال. في مقال إليوت يحل مفهوم “النسب” الطوعي القائم على حرية الاختيار، محل مفهوم “الاتّباع” القائم على علاقة بيولوجية تنفي هذه الحرية. فهو يقدم وصفاً شخصياً لما يدعوه إليوت علاقة ألإلفة أو المودة الشخصية بين كاتبين، أي العلاقة الحميمة بين شاعر وآخر. قد لا يكون الشاعران عاشقين بل تربط بينهما علاقة حب وكراهية (ambivalence) أي علاقة تكافؤ الضدين، ولكننا (يمضي إليوت قائلاً) “إذا كانت لدينا علاقة حقيقية مع شاعر حقيقي، بصرف النظر عن مكانته.. فإننا عندئذٍ لا نقلد بل نتغير: (we do not imitate; we are changed) ويصير عملنا بذلك عمل شاعر متغير. إننا لا نكون قد اقترضنا (من الشاعر الآخر) بل نكون قد نمونا ودبت الحياة فينا وصرنا حملة تراث”. لا أفترض بهذا التدخل وجود تطابق بين أدبين متمايزين، إنكليزي وعربي، بل أزعم وجود موازاة أو تماثل أو ما يفوق التماثل أو التشابه فيما يتصل بمفهوم إليوتي بديع، يعيد تعريف النسب ليحل اختيار النسب أو (الانتساب) الحر، الخصيصة المتعلقة بالممارسة الشعرية المميزة للشعر عن النظم، محل ما أدعوه بلا تردد “الداروينية الشعرية” التي تفضي إليها قراءة أدونيس للثبات والتحول. 3 - يرى أدونيس أن “هدم الأصل يجب أن يمارس بالأصل ذاته”. الثابت عنده جوهر سباتي يجب أن يهدم بجوهر متحول في ثنائية ضدية ولكنها معيارية. وهذا يعيدنا إلى الأصل الضد المفضل لدى أدونيس، بل إلى مفهوم الأصالة الذي يتعزز لديه بالتكرار، أو بالترتيل أي الترداد المستمر على حد تعبير عبدالله العروي. ومفهوم الأصالة الذي يردده أدونيس بلا انقطاع لا يعبر هنا عن نسبة إلى أصل، بل مفهوم يشير إلى قرب المتحول من جوهر الأصل أكثر من جوهر الثابت، وهذه مسألة دينية تحتاج إلى نقاش آخر، يبدو كما أسلفت، خارج السجال حول ماهية الشعر وحدود الشعرية. وتكمن المفارقة في أن أدونيس نفسه يقول عن الحداثة في كتابه “الشعرية العربية”، “تكون الحداثة رؤية إبداعية بالمعنى الشامل، أو لا تكون إلا زياً. ومنذ أن يولد الزي يشيخ. غير أن الإبداع لا عمر له. لذلك ليست كل حداثة إبداعاً. أما الإبداع فهو أبدياً، حديث”. إذا كان الإبداع في الشعر العربي لا عمر له، ولم يكن زياً يشيخ، فهل تصلح الثنائية التفاضلية الصادرة عن مرجعية لاهوتانية غير شعرية، معياراً لروز الشعر؟ 4 - في مقالة إليوت “تأملات في الشعر الحر” (1917) قول قد يفيد في التحديق بالاتّباع والإبداع دون العبور ببرزخ ثقافي لاهوتي. يقول إليوت “لا وجود للانقسام بين الشعر المحافظ والشعر الحر، لأنه لا يوجد سوى شعر جيد وشعر رديء”. بهذا الطرح يستعاد دور المتلقي الذي يرى من منظور حاضر مفتوح وجود تعايش بين التيارات الشعرية، قائماً على معيارية نقدية تؤكد التكامل بين إرسال الشاعر واستقبال المتلقي. الفصل بين الثابت والمتحول لا يمكن أن يكون فصلا حرفياً بل افتراضي. وهذا يعني أن هناك تداخلاً بين الثبات والتحول، يتسرب بموجبه الثابت إلى المتحول والمتحول إلى الثابت. فالحدود بينهما افتراضية. ولكن الخطاب الأدونيسي بمحكَّاته وتفاصيله يصرُّ على اختراع اصل يدشِّن وصاية فقهاء يمثلون عادة كتلة سائبة لا متميزة، فتتمثل الحداثة عنده بقرمطية تعيد انتاج الاشتراكية، وصوفية تعيد أنسنة الوجود. وأما الشعر فيقترح إبداعاً يملي فاعليته فقهاء أصل تراثي يحتكر “الحقيقة” فتصير الشعرية طقساً لاهوتياً بديلا يحلّ محل الإبداع الإلهي، يقول أدونيس في “قصائد أولى”:

مشاركة :