العلاقات بين الدول تحكمها مبادئ ما زالت ثابته منذ كتابات الواقعية السياسية للمؤرخ اليونانى ثيوسيديدس والذي أكد مبدأ الأمن والبقاء، وهذا المبدأ هو الذي يكشف بوضوح عن السلوكيات السياسية للدول وقراراتها وسياساتها. والمبدأ الثاني الذي يحكم علاقات الدول هو مبدأ المصالح والنفوذ والهيمنة، وهذان المبدآن هما أساس نظرية القوة أو الواقعية فى العلاقات الدولية، وهذا الذي يفسر لنا تراجع الأخلاقيات والإنسانية فى علاقات الدول. هذه المبادئ هي التي تحكم أيضاً علاقة الولايات المتحدة بالدول العربية.. والسؤال ماذا تريد الولايات المتحدة؟ وماذا تريد الدول العربية؟ وكيف يرى كل منهما علاقاته بالآخر؟ وهل من رؤية استراتيجية للعلاقات؟. لا يمكن فهم هذه العلاقات إلا من خلال نظرية المصلحة القومية ونظرية القوة التي تهيمن على صناعة السياسة الأمريكية. عوامل كثيرة تفسر لنا هذه العلاقة، ولكن سأكتفى بإلقاء الضوء على بعضها، أولها يتعلق بالولايات المتحدة كدولة قوة أولى فى العالم، مثل هذه الدولة تسعى للسيطرة على بنية القوة فى العالم، ومن ثم تسعى لمد نفوذها على المناطق الاستراتيجية في العالم مثل المنطقة العربية. وهي دولة قوة أحادية في العالم يحكم سلوكها علاقاتها الشمولية بدول القوة على المستويين الإقليمي والدولي، وثانياً ما تمثله المنطقة العربية من مكانة في بنية القوة العالمية، فلقد حبا الله هذه المنطقة بمقومات وعناصر القوة التي تتصارع عليها دول القوة كلها، وهو ما يعكس لنا التنافس والصراع بين القوى الإقليمية مثل إيرانو تركيا وإسرائيل على المستوى الإقليمي، والولايات المتحدة وروسيا والصين وغيرها على المستوى الدولي. فالمنطقة مصدر للنفط، ومصدر للقوة المالية، وتتمتع بموقع استراتيجى لا يمكن لأي دولة قوة أن تتجاهله، ولذا فالمنطقة هي منطقة مستهدفة تاريخياً من قبل هذه الدول وغيرها. ومما زاد الأمور تعقيداً أن المنطقة العربية تملك عناصر القوة، لكنها لا تملك دولة القوة التي يمكن أن تواجه وتحد من سلوكيات الدول الأخرى النافذة. ثم أن في قلب المنطقة تقع إسرائيل وهي الثابت الوحيد فى السياسة الأمريكية فى المنطقة... فإسرائيل ليست مجرد دولة في السياسية الأمريكية، بل هي تشكل أحد عناصر السياسة الأمريكية الداخلية بما لدى التواجد اليهودي من تأثير وتحكم في مؤسسات صنع القرار الأمريكى، وما لليهود من مكون اجتماعى وإيديولوجي وعقيدي في السياسة الأمريكية، هذا العامل هو المحدد الرئيسي للسياسة الأمريكية، ثم هناك الالتزام بأمن وتفوق إسرائيل الذي يعني أن تبقى المنطقة العربية ضعيفة مفككة، وأن يبقى ميزان القوة يعمل لمصلحة إسرائيل على حساب قوة الدول العربية. وهذا ما يفسر لنا لماذا احتكرت الولايات المتحدة عملية السلام في المنطقة، حتى لا يفرض أي قرار على إسرائيل يؤثر في مكانتها ودورها في الاستراتيجية الأمريكية، بل وأكثر من ذلك تحاول الولايات المتحدة أن تجعل من إسرائيل دولة مقبولة فى المنطقة ومعترف بها، وذلك من خلال استبدال المشروع العربي بالشرق أوسطي، وهو ما يفسر لنا أيضاً الموقف الأمريكي من تأييد جماعة الإخوان، إدراكاً منها أن هذا قد يكون مدخلاً لهذا القبول. وإلى جانب المحدد الإسرائيلي وهو محدد ثابت، نذكر محدد المصالح الأمريكية العليا في المنطقة بما تمثله وتملكه من موارد استراتيجية ضرورية للحفاظ على عناصر القوة الأمريكية. وهناك من يقول إن هذا المحدد غير ثابت، وهذا صحيح ولكن في المدى البعيد، وعلى ضوء بروز مناطق أخرى في العالم تصبح لها أهمية استراتيجية في سياسة الولايات المتحدة مثل منطقة شرق آسيا، مع ذلك ستبقى المنطقة منطقة اهتمام أولى في السياسة الأمريكية على المنظور البعيد. ولتحقيق هذه الأهداف تقوم الولايات المتحدة على تبني استراتيجيات متعددة ومتنوعة منها الحفاظ على قوة إسرائيل، وعقد اتفاقات قوة جديدة مع الدول الإقليمية مثل إيران متمثلاً بالإتفاق النووي الذي قد تترتب عليه تحولات في العلاقات بينهما، والحفاظ على علاقاتها بتركيا، وتثبيت تواجدها في المنطقة من خلال خلق تصورات جديدة لمفهوم العدو الجديد الذي يهدد بقاء أمن الدول العربية، من خلال الاستفادة القصوى من تمدد الحركات المتطرفة في المنطقة، وتعرض الدولة العربية أو ما تبقى منها للتفكك. لذا تعمل الولايات المتحدة على إعادة رسم الخريطة السياسية للمنطقة في ضوء التحولات الجديدة، وبتشجيع بروز وتبني المطالب القومية للأقليات الطائفية والاثنية، وهذا احتمال قائم وكبير، ولن يدخل حيز التنفيذ من دون مساعدة أمريكية، ويمثل سيفاً في يدها تسلطه على رقاب الدول العربية. الولايات المتحدة تتبنى استراتيجية متعددة الوجوه، وقد تجمع بداخلها قدراً من التناقض، لكنها في النهاية تقوم على معادلة القوة: إسرائيل قوية، دول عربية مفككة وضعيفة، واتفاق مع دول القوة في المنطقة بما لا يعرض أهداف الولايات المتحدة للخطر، وذلك من خلال خلق مناطق نفوذ جديدة، لم تعد خرائط سايكس- بيكو تصلح لها بسبب التحول في القوة. وعليه ستبقى القوة هي الحاكمة للسلوك الأمريكي في المنطقة. drnagish@gmail.com
مشاركة :