عندما نتحدث عن المسرح بوصفه ظاهرة، تمثُل أمامنا مساحات اكتسبت مقومات تناميها واستمراريتها من قدرتها على خلق وبلورة فعلها التراكمي وفق رؤية جماعية مسؤولة تدرك أهمية ودور اللقاء المسرحي الحي وتأثيره في المجتمع، فهل تحقق لدينا هذا الفعل التراكمي في مسرحنا الخليجي أم أن أوصاله تشتتت وانقطعت منذ منتصف الثمانينيات ليظل بعدها حالة استثنائية تقوم على جهود مسرحية استثنائية غير معضدة إلا بما أوتيت من حب ربما لا يشاركها فيه إلا من آثر أن يكون استثنائيا في الدعم والتلقي؟ كيف إذن يمكن لهذه الظاهرة أن تنمو وتستمر وتمتد وتتحدى وتواجه التحديات بمختلف أنواعها وهي غير المؤسسة على فعل تراكمي عريض ينخلق من قلب المجتمع وفيه ويعتمل معه وعيا ورؤية وأفقا؟ وإذا كان لمسرح السبعينيات ما يبرر كونه تيارا مسرحيا اجتماعيا تقاطع مع الكثير من القضايا والمطالب المستنيرة التي كانت تطرح على أرض الواقع إبان تلك الفترة وتجسدها، فإن مسرح اليوم يوشك أن يهجر هذه القضايا والمطالب والتطلعات اجتماعيا وفنيا، وإذا كانت هناك ثمة رؤى راسخة بعمقها الفكري والتقني في مسرحنا الخليجي اليوم، فإن المشكلة التي تواجه هذه الرؤى هي العمل من خارج رحم الفرقة ووفق اجتهادات يقتضيها عرض التجربة في حينه، واشتغالها في حيز أوشك أن ينهي عقده الاجتماعي مع المسرح النوعي الذي تتحرك هذه الرؤى في أفضيته.. ودعونا نواجه أنفسنا بصراحة وبشراسة خالصة، ألا تعتبر السلطة الدينية الضالعة بتطرفها وعنفها وإرهابها في أرض واقعنا الإجتماعي هي أقوى وأفظع السلطات التي من شأنها أن تئد أي فن وجمال وحياة تتنفس على هذه الأرض؟ ألا تعتبر مواجهتها أولى وأهم التحديات التي ينبغي أن يتسلح بها وعي المسرحيين؟ إذن لماذا يترك الحصان وحيدا حسب الشاعر الراحل الباقي محمود درويش في مواجهة هذه السلطة المتناسلة بهوادة في وعلى هذه الأرض؟ فعن أي هوية نتحدث؟ إنها هوية عقيمة ممسوخة تلك التي نراها في مشهد واقعنا العربي، اللهم الا استثناءات تحفظ ما تبقى من ماء على وجه هويتنا التنويرية، ولعل مسرحية نهارات علول تأليف مرعي الحليان، إخراج حسن رجب، إنتاج مسرح الشارقة، تأتي على رأس هرم الأهمية من بين العروض المسرحية الخليجية الأخرى، هذه المسرحية التي شرحت وحللت وفككت الواقع العربي المفجع برؤية غروتسكية عالية موغلة في السخرية، جسد علول الذي احتوى رصاصة لا تستقر في جوانبه، ويتعذر معها تشخيص علة مكامن انتقالاتها الغرائبية فيه، وكما لو أنها تشي إلى رجرجة الواقع العربي الذي لا تستقر في ظل الفساد الموغل في أدق تفاصيل خلاياه أية هوية، فكل الهويات بانعكاساتها وانعطافاتها العربية تضطرم في هذا الجسد المتفلت خارطة كونية تنصهر فيها عذابات الباحثين عن هوية التنوير والخلاص، وذلك حتى آخر لحظة رمق من حياة موت علول العبثية. إنه هوية تبحث عن هويتها وسط هويات مريبة ولا نهائية. نهارات علول، تجربة تنتمي للهم العربي برؤية تشظت بمعرفة حاذقة، جاست عميقا في هويات متعددة على صعيد الهم السياسي، وعلى صعيد قراءة الموروث قراءة جديدة تدعوك لتأملها جيدا ومليا. إننا نحتاج لذوبان الهويات في هوية إذا كانت هناك رؤى تستطيع أن تستقطب في أحشائها كل ما هو مضيء وصادر عن ثقافة ووعي مستنيرين، فالإنسان يحمل على عاتقه كل أسلافه، وهو نتاج المضيء في تجاربهم الحياتية. حضور النص.. في مسرحنا الخليجي يبدو النص المسرحي أقوى حضورا في تبنيه لهوية التنوير والإيمان بها، ويتجلى ذلك الحضور، في نصوص الكاتب والشاعر البحريني علي الشرقاوي والكاتبة والناقدة العمانية آمنة ربيع، والكاتب الناقد السعودي سامي جمعان، والمؤلف المسرحي السعودي فهد ردة الحارثي، والمؤلفين المخرجين القطريين حمد الرميحي وغانم السليطي، والمؤلفين المسرحيين الإماراتيين اسماعيل عبدالله ومرعي الحليان. هؤلاء المؤلفون قدموا لساحة مسرحنا الخليجي، نصوصا اتكأت وانطلقت من رؤية عميقة باحثة، في قراءتها لواقعنا العربي الملتبس، وجاسوا مستقبل تحولاته ومنعطفاتها بوعي يدرك ويحاور صراع الهويات التي ينحو بعضها نحو كل ما هو مظلم ومعتم في خارطتنا العربية. مثل هذه النصوص، تقتضي تكافؤ خلاق في الحوار معها من قبل من يتصدى لها، وإذا كان هناك مخرجون اقتربوا من منطقة هذا الحوار، فإنهم كانوا من زاوية أخرى رهن المزاج الخاص والوقتي، أكثر من الإيمان بضرورة تبنيها باعتبارها رؤية من الممكن أن تنتسج فيها رؤى تهيء لتشكيل بيئة تنويرية تحدد ملامح التجربة أو تشكل اتجاها مسرحيا مهما في خليجنا العربي. إنها تحتاج إلى مخرجين مسرحيين باحثين، من شأنهم ان يحددوا ملامح هوية التنوير في البحث والإستقصاء فيها، ولكن للأسف، يوشك أن يكون هذا الطموح مغيبا، بالرغم من احتفاء ساحتنا المسرحية الخليجية بمخرجين باحثين ومتميزين، ولهم تجاربهم المسرحية المهمة والمؤثرة، ولكن الأهم أن تكون هذه التجارب أكثر اقترابا من هويتنا التي توشك أن تكون مفقودة ومهمشة في ظل هذا الزمن الوحشي الدموي الفاتك، وأعني بها هوية التنوير، نتيجة النتاجات والتفاصيل كلها. فالمسرح هويته التنوير، فهو بوصلة الوعي المستنير، وعدا ذلك باطل وقبض ريح.. في غياب هذه الهوية، يوشك مسرحنا أن يكون أشبه بقارب ضل بوصلته، فكيف يمكن الحديث عن هوية للمسرح؟ ربما يمكن الحديث عن ضالة الهوية في المسرح العربي في أغلبه، وربما نكون نحن المسرحيين من يسمح للإرهاب بأن يتغلغل في أجسادنا وفي جسد المجتمع في ضل صمتنا ووقوفنا مليا أمام التنوير بوصفه هوية في مسرحنا، ولا غرابة أن وجدنا يوما فرقا تتبنى وحشية الإرهاب وخططه ومآربه علانية في عروضها، والأيام القادمة كفيلة بأن تكشف لنا ما توقعته اليوم، فتعلن عبر مذابحها الدامية انتصاراتها عبر المسرح ذاته. للذاكرة فقط.. تذكروا أيها المسرحيون، أننا ورثة أبي خليل القباني، وأنه لا يزال سعيد الغبرا يطاردنا حتى يومنا هذا، بشكل أشد شراسة من ذي قبل، وبمؤامرات أكثر خطورة، وبأسماء مختلفة!!
مشاركة :