الشارقة: علاء الدين محمود مع الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا تتعمق وتترسخ المقولة الفلسفية القائلة: «كل الفلاسفة عملوا على اكتشاف العالم، ولكن المهم تغييره». ولعل أفضل السبل نحو هذا التغيير هو أن تصبح الفلسفة متاحة لكل الناس، حق للجميع لا أن تستأثر بها نخبة من الناس تمارس فعل التأمل، وإنتاج المقولات وطرح المفاهيم، وصناعة التصورات حول العالم والوجود. ينطلق جاك دريدا في كتابه «عن الحق في الفلسفة» الصادر عن المنظمة العربية للترجمة في بيروت، بترجمة الدكتور عز الدين الخطابي، من موقف مفاده أن «الحق في الفلسفة للجميع»، ولابد من أن تدخل بقوة ضمن منظومة التعليم في كل مراحله وأشكاله. ويتضمن الكتاب مقالات كان دريدا قد اشتغل عليها منذ منتصف السبعينات إلى بداية التسعينات من القرن الماضي، وهو القرن الذي شهد بروز فلاسفة معاصرين وجهوا جهدهم نحو تأسيس للفلسفة يشمل تعريفها ومنطلقاتها، فضلاً عن الدعوة إلى ضرورتها للحياة العامة، وهو الجهد الذي شكل منعطفاً جديداً للفلسفة قطعت به العهد مع الماضي الذي كان يجعلها علماً أو فناً متعالياً، لتدخل إلى صلب الحياة اليومية، وقد ظهر ذلك بشكل خاص مع فلاسفة مثل دريدا وميشيل فوكو، وجيل دولوز، وغيرهم، وقد اشتملت تلك النصوص التي ضمنها دريدا في الكتاب بحوثاً في قضايا التعليم والبحث الفلسفيين، وكل ما يرتبط بالجامعة وبالمؤسسة التعليمية عموماً. ويطرح دريدا في الكتاب سؤالاً مركزياً عن الفلسفة كحق، عندما يتساءل: «إلى أي حد يمكن للحق في التعليم، كحق منصوص عليه في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، أن يتضمن الحق في الفلسفة كحق كوني يتجاوز الاختلافات الوطنية والقومية والاجتماعية؟». ويرى دريدا أن الفلسفة مجرد فكرة، ولكن يجب وضعها في مكانها الصحيح، فهي التي تحاكم المؤسسات وتسائل التاريخ؛ لذلك ينبغي أن تكون حرة في كل وقت، ولا شاغل لها سوى الحقيقة وإنتاج الأسئلة القوية التي تُتقصى وتُبحث، وبالتالي فهي تتخلى عن كل التزام مؤسساتي، فهي حرة تتفرغ لمهمتها الأساسية في الكشف عن الأشياء وتغييرها، وذلك ربما هو المنهج الفلسفي الذي يستند إليه دريدا نفسه في ما يطلق عليه «التفكيك»، والذي هو فعل يتحرر من ثقل المؤسساتية وينطلق من فهم الأشياء، وبالتالي يخضع دريدا المؤسسة التعليمية نفسها لمنطق التفكيك، كبداية لمشروع يستهدف تفكيك كل المؤسسات، فالفلسفة بإرادتها الحرة هي ضد أي مؤسسة. وعندما يقرر دريدا في الكتاب أن الفلسفة من حق الجميع، فهو يشير إلى مفهوم الحق في الفلسفة نفسها، فال«حق» هو مصطلح فلسفي يعبر عن أمور يحتاجها الإنسان أو الكائن الحي عموماً كي يعيش بكرامة؛ إذ يجب على الدولة والوطن والمجتمعات توفيرها له دون تعقيد، فدريدا يدعو إلى جعل الفلسفة متاحة ومحمية بجهاز قانوني وسياسي ديمقراطي، ولكنه أيضاً يعزز تلك الدعوة بالأسئلة عن أي فلسفة نريد؟ وضمن أي فضاء خصوصي أو عمومي؟ وفي أي أمكنة للتدريس والبحث والنشر والقراءة والنقاش؟ وعبر أي هيئات وشبكات إعلامية؟، ومن الذي يفكر ويقول ويناقش ويتعلم ويدرس ويبسط ويعرض أو يتمثل الفلسفة؟، هذه الأسئلة لا تمتلك بالضرورة إجاباتها التي تتشكل داخل متن السؤال نفسه، ولكن دريدا يبتعد قدر الإمكان عن وضع إجابات مباشرة، فهذه ليست مهمته، كما أنه يخشى من أن يقع في ورطة المؤسسة التي يرفضها؛ أي أن تنتج الإجابات نفسها مؤسسات جديدة. الكتاب يوفر للقارئ علاقة جديدة مع الفلسفة، بحيث يطلع على المهمة الكبيرة والخطرة التي تقوم بها، وفي كشف ألاعيب الساسة والأنظمة الأيديولوجية والسياسية في توظيفهم للفلسفة، كما أن الكتاب يبذل مجهوداً لتبسيط المفاهيم والمفردات الفلسفية الصعبة؛ لذلك فهو يقيم تعريفات خاصة بالفيلسوف وأستاذ الفلسفة والفرق بين الاثنين. وعلى الرغم من أن الإبحار في عوالم دريدا صعب ويحتاج إلى كثير من الأدوات لفهم تلك العوالم، فإنه قصد أن يأتي هذا الكتاب بسيطاً وفي متناول الجميع.
مشاركة :