ثمة من يحاولُ، بإلحاح، تخفيف وهج شرارة التغيير الإيجابي الذي بعث الأمل في قلوب الكثيرين خلال الأشهر الماضية. يجري هذا بطرق عديدة، منها ما تنطبق عليه مقولة «كلمة حقٍ يُرادُ بها باطل»، حين يتم التأكيد في هذا الإطار على ضرورة، وأولوية، وأهمية، أن يكون العربُ (واقعيين)، خاصةً في معرض التعامل مع النظام الدولي.. صحيح. كنّا، ولا زلنا، كعرب بعيدين عن الواقعية في أغلب شؤوننا. وسواء تعلقَ الأمر بحياتنا كأفراد أو كجماعة بشرية، فإن المثاليات والأوهام والأماني تُشكّل جزءاً كبيراً من منظومتنا العقلية والفكرية والثقافية. وكلمة (الحسابات) التي تُشكلُ هاجساً للآخرين، هي آخرُ ما يرد في خواطرنا، خاصةً عندما يتعلق الأمر بالقضايا الكبرى والحساسة المتعلقة بحاضرنا ومستقبلنا. صحيحٌ أيضاً أن ندعو لتُصبح (الواقعية) محوراً من محاور حياتنا الفكرية والعملية، على جميع المستويات، عامةً ومثقفين، أفراداً وجماعات، حكاماً ومحكومين، وفي جميع المجالات، وبشكلٍ خاص في المجال السياسي، وبشكل أخص عندما يتعلق الأمر بالتوازنات الإقليمية والعالمية.. لكن كل ماسبق يجب أن يكون مبنياً على تحريرٍ صارمٍ لمعاني ومقتضيات وشروط مصطلح (الواقعية). لأن هذا التحرير هو ماسيخرجنا من المأزق (الوجودي) الذي نجد أنفسنا فيه كعرب عند التعامل مع ذلك المصطلح، خاصة في مثل هذه الظروف الاستثنائية. فالواقعية مصطلحٌ ينبعُ أصلاً من الصّلة الوثيقة بـ (الواقع)، بكلّ مقوّماته وعناصره وأبعاده ومداخله. وأن تكون واقعياً يعني أولاً، وقبل كل شيء، أن تَفهمَ كل تلك المقومات والعناصر والأبعاد والمداخل. ثم يعني أن تبذل كل جهدك و(تستفرغ الوسع) في امتلاك (أقصى) الشروط، وكل الأوراق، التي تسمح لك بالتعامل مع ذلك الواقع. ثم يعني أخيراً أن تدرك (الحدود) التي لا يمكن لك (فعلاً) تجاوزُها. بل إن من (الواقعية) أيضاً ألا تقف عند الحدود.. بسلبيةٍ بالغة واستسلامٍ مطلق، وإنما بتحفزٍ وانتباهٍ ويقظةٍ ومتابعةٍ لكلّ متغيّر. لأن تلك الحدود ليست صلدةً على الإطلاق، وإنما تتصف بكثيرٍ من المرونة والسيولة، ويمكن لها أن تتغير وتتبدل على الدوام. تلك هي باختصار (الواقعية) في معانيها الحقيقية، والتي يفهمها وينطلق منها في أفعاله ومخططاته كل من يحترم نفسه ويبحث عن الاحترام في هذا العالم. وتلك هي بعض مقتضياتها وشروطها التي لا يصعب إدراكُها والحركةُ بمقتضاها حين يتوفّر الحدّ الأدنى من الجديّة والعزيمة والإرادة والحزم. أما أن تنحصر كل معاني الواقعية في مسألة إدراك (الحدود) وفي الدعوة للوقوف عندها.. وأما أن نختزل هذا المصطلح الهامّ والحسّاس في حياة الأمم والشعوب عند تلك النقطة، فإنه على وجه التحديد ما يخلق المآزق الكبرى، لأنه يُحيلُ في الحقيقة إلى معنى (العجز) في لَبوسٍ مزيف لاتعودُ له علاقةٌ بالواقعية. وإذا لم يتمّ التعامل مع هذه القضية بحكمةٍ بالغة على الصعيد المحلّي والإقليمي والعالمي، فإن المآزق التي نتكلم عنها تُنذر بكثيرٍ من فوضى لاتقف عند حد مانراهُ الآن. خاصةً وأن أغلب (الحدود) إنما تكون حدوداً في أذهان أصحابها فقط، ولا تكون هي الحدودَ الحقيقية التي تنبع من استقراءٍ سليم للواقع، أي أنها لا تنبع من (الواقعية) ولاتمتُ إليها بِصِلة. لاتعرف السياسة الثبات. وحتى حين تكون هناك ثوابتُ تتعلق بالمصالح الاستراتيجية، فإن الوصول إلى تحقيقها ممكنٌ من ألف طريق. وإذ ترغبُ القوى العالمية في ضمان أعلى سقفٍ ممكن لمصالحها، العاجلة والآجلة، بأقل ثمنٍ ممكن، وعلى حساب مصالح الآخرين، وهو مايحصل في غياب التفكير السياسي الخلاق من قبل هؤلاء الآخرين.. فإن تلك القوى نفسها هي أولُ من يفهم لغة التوازنات. لهذا، فإنها تكون دائماً مستعدةً لخفض سقف المصالح، ولدفع بعض الثمن، واحترام مصالح الآخرين، في سبيل ضمان الحدّ الأدنى الاستراتيجي من مصالحها الحقيقية. waelmerza@hotmail.com
مشاركة :