هل يُفكِّر العرب بشكلٍ استراتيجي حين يتعلق الأمر بحاضرهم ومستقبلهم؟ ثمة تناقضٌ، يُظهره الاستقراء العلمي الرصين، بين الشعارات والواقع في هذا المجال. هناك لغطٌ كثير عن الموضوع، بشكلٍ مباشرٍ وغير مباشرٍ، في صالونات السياسة والإعلام، وحتى أروقة صناعة القرار. أكثرَ من هذا، توجد محاولاتٌ، حثيثةٌ أحيانًا، لتحويل الشعارات إلى واقع. لكن السؤال لا ينفك يفرض نفسه من منطلقات عملية بحتة، في ضوء التهديدات الكبرى التي لا جدال بأنهم الأكثر استهدافًا بها في قادم الأيام؟ وبحيث تتم مقاربته بشفافية ووضوح. «الوقائع كائنات مقدسة، تُمارس انتقامًا بشعًا من الباحث الذي يتظاهر أنها غير موجودة». لا تنطبق هذه المقولة التي تُنسب لأحد مؤرخي اليونان القديمة على الباحثين فقط، وإنما يصدقُ مضمونها، بدرجةٍ أكبر، على صانع القرار السياسي العربي المعاصر. فمرةً تلو أخرى، على امتداد الأشهر الماضية، يُفاجأ العرب بقرارات وممارسات سياسية لم يُحسب لها حساب، تَصدرُ عن أطراف النظامين الإقليمي والدولي، وتَخلق، على أرض الواقع، وفي مجالات السياسة والأمن والاقتصاد، تطورات جديدة، المُشكلُ أنها تكون، في نهاية المطاف، من ذلك النوع الوجودي المتعلق بهم، شعوبًا ودولًا، حاضرًا ومُستقبلًا وخرائط. ثمة عناصر للموضوع يبدو ضروريًا التفكيرُ بها في معرض تحليل معنى الفكر الاستراتيجي وعناصره ومداخله ومُقتضياته قبل أي شيءٍ آخر. ما هو التفكير الاستراتيجي أصلًا؟ ثمة من يراه في القدرة على المناورة بين التوجهات السياسية للحكومات بين وقتٍ وآخر. وهناك من يحصره في «تأمين» العلاقة مع القوى العالمية، وأحيانًا بأي ثمن. أسوءُ من هذا الوهمُ بأنه يعني «ترسيخ» علاقات شخصية ومباشرة مع أفراد بعينهم في تلك القوى، بحيث يضمن بهذا «ولاءهم» ويأمن «شرهم». إلى غير ذلك من الأفهام المُجتزئة والسطحية السائدة في ثقافتنا السياسية عربيًا. بالمقابل، يُغطي التفكير الاستراتيجي حشدًا من المكونات والعناصر لا يمكن القولُ بتحقيقه دون الإحاطة بها. والتفصيل بشأنه يحتاج إلى مقامٍ آخر. التاريخ وتجاربه الكبرى، العلوم الاجتماعية ومدارسها ونظرياتها؛ الأنظمة التي انبثقت عن تلك النظريات وأصبحت بمجموعها «نظامًا» يحكم العالم؛ التطورات الحساسة للواقع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي لمجتمعات العالم ودوله؛ كيف تتفاعل هذه التطورات مع مكونات ذلك النظام وتؤثر عليه مُظهرةً ثغراته المتزايدة وعدم قدرته، باطراد، على حل أزمات البشرية المتصاعدة؛ كيف يتعامل أهل القرار العالمي مع هذا الواقع في معرض البحث عن تبريرات لعدم قدرتهم على حل تلك الأزمات داخليًا وعالميًا؛ هيمنة الاقتصاد، بكل فوضويته وممارسات مراكز قواه، على مجريات الأمور عالميًا؛ ثورة تقنية الاتصالات والمعلومات بآفاقها الأقرب للخيال ومستتبعاتها على كل عناصر الاجتماع البشري؛ التطورات الكونية للظاهرة الدينية وتحديدًا جانبها الصاخب والشعبوي؛ الاهتراء الكامل لمنظومة الشرعية الدولية المتمثلة بالأمم المتحدة وعجزها العملي النهائي؛ سقوط الحد الأدنى من قواعد السياسة في العلاقات الدولية وطغيان ممارسات الخديعة والنفاق والكذب وازدواجية المعايير بوقاحة ووضوح؛ (موت السياسة) والهوس الأعمى بجدوى العمل عبر الوسائل الاستخباراتية والسرية والتآمرية بين الدول؛ المستتبعات المباشرة وغير المباشرة الناتجة عن الظواهر أعلاه على الواقع العربي، وحجم الضغط القادم على المجتمعات العربية شعوبًا وحكوماتٍ. فضلًا عن غياب رؤى حضارية/ ثقافية مُحكمة البنيان، تتعلق بقيمة الإنسان والمجتمعات، وضوابط العلاقة بين الشعوب والأنظمة، لا يمكن بناء أي استراتيجيات سياسية بدون وجودها. هذه، وغيرها كثير، عناصر أساسية يستحيلُ وجود تفكيرٍ سياسي استراتيجي بمعزلٍ عنها. وسيكون مهمًا جدًا، في هذا السياق، الانتباه إلى أسئلةٍ تتعلق بمن هو مكلفٌ، ابتداءً، بهذه المهمة الخطيرة والحساسة: التفكير الاستراتيجي سياسيًا. ففي حين يتجاوز البعض هذه الأسئلة أصلًا، أو يتعاملون معها بحسابات تقليدية، يبقى التعامل معها مفرق طريق أساسي يضع الممارسة، من بدايتها، بين طريقي «السلامة» أو «الندامة». من هو المؤهل حقاً لمثل هذه المهمة الاستثنائية؟ ما هي طبيعة «الولاء» الذي يجب أن يتوفر في أصحابه؟ للدولة والشعب وحاضرهما ومستقبلهما، أم لمديرٍ هنا ومسؤولٍ هناك. نقول هذا لأن استقراءً استراتيجيًا حقيقيًا للمستقبل، القريب قبل البعيد، يُفرز رؤية خطيرةً لما هو قادم على المنطقة من تغييرات، سيبدو الحديث في تفاصيلها غريبًا لدى البعض، وتهويلًا لدى آخرين. لكن هذا، بحد ذاته، تعبيرٌ صادق عن الأزمة المُشار إليها أعلاه، بشكلٍ يُذكِّرنا بمقولة للعرب تاريخية: «وَلاتَ حين مَندم». waelmerza@hotmail.com
مشاركة :